لم يعتبر القانون الدولي الاختفاء القسري جريمة منذ البداية وإنما تدرج من الإعتراف به ك (ظاهرة) خطيرة، ثم مع ازدياد انتشارها تطور إلى تجريم الفعل نفسه، ثم تطور إلى تجريمه ووضع عقوبات له.
لم يتمكن فقهاء القانون الدولي من تحديد تاريخ معين لظهور الاختفاء القسري ك (جريمة) ، لكن اتفقت الآراء الفقهية في القانون الدولي إلى أن (أدولف هتلر) هو السبب الرئيس وراء ظهور الاختفاء القسري وذلك حين أصدر مرسوماً عرف باسم (الليل والضباب) في 7 ديسمبر 1941 م إبان الحرب العالمية الثانية، وكان الغرض من المرسوم اعتقال الأشخاص الذين يعترضون الأمن الألماني في الأقاليم الواقعة تحت سيطرة ألمانيا، ونقلهم واخفائهم وحظر أي معلومة عنهم وعن مصيرهم وذلك لإرهاب الناس وتخويفهم ، ثم انتشر الفعل ك (جريمة) في العالم بعد ذلك خاصة في دول أمريكا الجنوبية، ثم تطورت وزادت في وحشيتها وبشاعتها ، حتی أن أحد فقهاء القانون الدولي – وقتها- (لويس جاني) وهو الخبير الفرنسي الذي عمل في اللجنة الفرعية لمنع التمييز وحماية الاقليات وشارك في وضع مسودة أولى لإعلان ينص علي تجريم الاختفاء القسري عام 1988م ، و أطلق على الاختفاء القسري (جريمة الوقت المعلق) أو (الجريمة المستمرة) لأنها جريمة مستمرة طوال فترة اعتقال الشخص وإخفائه قسرياً.
لم تسطع الدول مكافحة الاختفاء القسري كجريمة عبر قوانينها الوطنية أو التشريعات الداخلية ، فسعت لبروتوكولات إقليمية ولجأت لأعراف دولية لفترة طويلة، إلى أن جاءت الأمم المتحدة وتصدت إلى حماية الكثير من الحقوق وتصدت للجريمة نفسها واعتبرتها جريمة دولية يتعين علي جميع الدول التصدي لها ، واعتبار الاختفاء القسري جريمة ضد الإنسانية.
نتيجة لذلك اعتمدت الأمم المتحدة الإعلان المتعلق بحماية جميع الاشخاص من الاختفاء القسري في العام 1992م ، والذي منع الفعل حتى في الظروف الاستثنائية ك (حالة الحرب) مثلاً.
ثم عقدت الاتفاقية الأمريكية بشأن الاختفاء القسري لعام 1994م ، وجاءت نتيجة انتشار الفعل الاجرامي بعدد من دول القارة الأميركية ، وهي الاتفاقية الإقليمية الوحيدة في هذا المجال .
ثم كونت لجنة حقوق الإنسان 2001م فريقاً عاملاً لإعداد مشروع اتفاقية دولية ملزمة قانونيا حول الاختفاء القسري ، وبالفعل تم وضع الاتفاقية واعتمدتها الأمم المتحدة في 20 ديسمبر 2006م ، ودخلت حيز التنفيذ في 23 ديسمبر 2010م .
تعد الاتفاقية الدولية لحماية جميع الاشخاص من الاختفاء القسري للعام 2006م ، من أقوى الاتفاقيات الدولية حيث عرفت الاختفاء القسري وأوضحت للدول التدابير القانونية التي يجب اتخاذها في حالة وقوع جريمة الاختفاء القسري ، بما يحقق العدالة ويحفظ كرامة الضحايا وأسرهم ويضمن حقوقهم القانونية.
كذلك اعتبر ميثاق روما الأساسي، جريمة الاختفاء القسري من ضمن الجرائم المعاقب عليها ضمن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، مما يوضح حجم وخطر هذة الجريمة.
في ذات الشأن ظل القانون الدولي يتناول الاختفاء القسري من خلال ثلاثة مكونات أساسية هي ، القانون الدولي لحقوق الإنسان ، والقانون الدولي الانساني ، والقانون الدولي الجنائي ، جميعها تصب في تجريم الفعل دوليا والسعي نحو تقديم الجاني للمحاكمة العادلة بصورة لا تسمح للجناة بالافلات من العقاب.
نذكر هنا أن القانون الدولي لحقوق الإنسان ينص في مادته الرابعة من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية علي أنه يجوز للدولة أن تتحلل من التزامها (ببعض) حقوق الإنسان حال تعرضها لظروف استثنائية ، إلا أن الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري 2006م أرست مبدأ في غاية الأهمية وهو أن أي ظرف استثنائي أو أية تدابير عاجلة تقوم بها ، لا تجيز الاختفاء القسري للأشخاص.
كما أقرت الاتفاقية بمبدأ المسؤولية الجنائية الفردية عن جريمة الاختفاء القسري ، وبالتالي لا تستطيع الدولة أن تتسامح أو تغض الطرف عن جريمة الاختفاء القسري نهائياً.
علي الصعيد الوطني نجد أن السودان انضم للاتفاقية الدولية لحماية الأشخاص من الاختفاء القسري للعام 2006م ، في العام 2021م بعد ما صادق المجلس التشريعي المؤقت (مجلس السيادة ومجلس الوزراء الانتقاليين) علي الانضمام للاتفاقية ، وفي الحرب الحالية استخدمت المليشيا الإرهابية الاختفاء القسري كسلاح حرب ضد المدنيين وقامت باحتجاز الآلاف داخل معتقلات غير معروفة ومنعت التواصل مع ذويهم أو نشر أي معلومات عنهم وتعمد اخفائهم ونقلهم معها حين تهزم إلى معتقلات أخرى دون الادلاء بأي معلومات عنهم بحيث لا يعرف إن كانوا علي قيد الحياة أو لا ، والمعلومات التي تتوافر عمّا يحدث في تلك المعتقلات مصدرها الناجون أو الفارون من معتقلات المليشيا.
إن أثر هذه الجريمة لا يقتصر علي الضحايا وحدهم بل يمتد لعائلاتهم وأهلهم ، فقد شملت الاحصاءات الأولية للصليب الأحمر الدولي أعداداً كبيرة تصل إلى الآلاف من الرجال والنساء والأطفال جميعهم مدنيين .
سيظل هذا الملف يوثق للمليشيا الإرهابية أفعالها الاجرامية وستظل المطالبة بالافراج عن المحتجزين قسريا مستمرة ، ويستمر التوثيق لروايات الضحايا عبر الإعلام وما حدث لهم، فهو ضرورة أخلاقية وقانونية لضمان حقوقهم هم وذويهم و ضمان عدم افلات الجناة من العقاب وتقديمهم للعدالة ، مع المطالبة بتفعيل الآليات الدولية وإعلان المليشيا المتمردة منظمة إرهابية .
أتمنى أن يكون ملف (جريمة الاختفاء القسري) ضمن ملفات السودان التي يطرحها رئيس الوزراء دكتور كامل إدريس في دورة انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك ، خاصة وأن (انطونيو غوتيريش) الأمين العام للأمم المتحدة تحدث في بدء أعمال الدورة الأممية الـ 80 ، يوم الثلاثاء 23 سبتمبر 2025م وذكر ان “المدنيين في السودان يذبحون ويجوعون و تكمم أفواههم ، وأن الافلات من العقاب هو أساس الفوضى وهو ما أدى إلى نشوء أبشع الصراعات ” ، إذن الكرة في ملعب الأمم المتحدة الآن ولها أن تسدد هدفاُ (إنسانياً) في مرمي العدالة والإنسانية .
