الإعلام رسالةٌ لا مرآة.. والحياد إطارٌ لا غاية

د. ياسر محجوب الحسين

في خضم الحرب الدائرة في السودان، تزداد الحاجة إلى إعلامٍ واعٍ برسالته، لا إلى إعلامٍ يكتفي بنقل الأحداث كمرآة صامتة. فالإعلام، في جوهره، ليس مجرد قناة ناقلة للمعلومة، بل هو رسالةٌ تحمل قيما وأهدافًا، وتسعى إلى التأثير، وتشكيل الوعي، وخدمة الحقيقة والمجتمع. ولهذا، فإن الحياد والمهنية – وإن كانا ضروريين – لا يُنظر إليهما باعتبارهما غايةً في حد ذاتهما، بل كإطارٍ تنظيمي وأداةٍ تُضمن من خلالها مصداقية الرسالة ونزاهتها.

الخلل يبدأ حين يُقدَّم الحياد على الرسالة، فيُنظر إلى الإعلام على أنه ملزم بأن يقف على مسافة واحدة من كل شيء، حتى لو كان ذلك على حساب الحقيقة أو العدالة. فيُصبح الحياد غطاءً للصمت، أو ذريعةً لعدم اتخاذ موقف أخلاقي إزاء الانتهاكات، أو تبريرًا لنقل الرواية الخاطئة بحجة “التوازن”. لكن الحقيقة أن الإعلام لا يمكن أن يكون محايدًا تمامًا؛ فهو يختار ما يُغطّي، وما يُهمِل، وكيف يصوغ الخبر، وأي سياق يقدمه. وحتى الحياد المهني – المتمثل في الدقة والتوازن والتحقق – ليس قيمة قائمة بذاتها، بل وسيلة تُستمد مشروعيتها من خدمتها لرسالةٍ أسمى.

في السودان اليوم، حيث تتداعى البنية الإعلامية تحت وطأة الحرب، ويتضاعف عدد المنصات الرقمية بلا رقابة أو رؤية، برزت ظاهرة إعلام بلا رسالة وطنية واضحة. كثير من هذه المنصات يفتقر إلى هدفٍ معرفي أو أخلاقي، ويكتفي بنقل الإشاعات أو تضخيم الخطابات الطائفية، تحت شعار “الحرية” أو “الحياد”. وهنا يكمن الخطر: فغياب الوعي بالرسالة الإعلامية يحوّل الإعلام من أداة تنوير إلى أداة تمزيق.

ولعل ما يعضّد هذه الرؤية هو ما طرحته نظرية المسؤولية الاجتماعية للإعلام التي تؤكد أن حرية الصحافة ليست غاية في ذاتها، بل وسيلة لخدمة المجتمع من خلال الالتزام بالصدق والدقة وكشف الانتهاكات وتعزيز قيم العدالة. وفي السياق ذاته، يبرز مفهوم الإعلام التنموي الذي ينظر إلى الإعلام كأداة لتغيير الواقع وبناء السلام وتعزيز التماسك الاجتماعي، لا كمجرد ناقل محايد للأحداث. وبذلك يصبح الإعلام في السودان اليوم أمام مسؤولية مزدوجة: أن يحافظ على مصداقيته المهنية وفق مقتضيات المسؤولية الاجتماعية، وأن ينهض بدور تنموي يواكب تحديات الحرب ويضع أسس المصالحة وإعادة البناء.

لذا، فإن النقاش الدائر حول “الحياد الإعلامي” وحدوده ليس نقاشا نظريا فحسب، بل مسألة وجودية في زمن الحرب. فالمطلوب ليس إعلاما “محايدا” بمعناه الميكانيكي، بل إعلاما مسؤولا، واعيا بدوره في حماية النسيج الاجتماعي، وكشف الانتهاكات، وتعزيز ثقافة السلام والعدالة. الحياد هنا لا يعني التساوي بين الحق والباطل، بل يعني النزاهة في السرد، والدقة في النقل، والشفافية في المصادر.

الخلاصة أن الإعلام رسالةٌ أولا وأخيرا، والحياد والمهنية هما الضابطان اللذان يحفظان هذه الرسالة من الانحراف، لا الغاية التي تُضحّى من أجلها بالمعنى والضمير. وفي زمن الحرب، لا يكفي أن نكون “محايدِين”، بل يجب أن نكون “مسؤولين”.

Exit mobile version