احتكار بنك السودان لتصدير الذهب: محاولة إنعاش محفوفة بالمخاطر

مهند عوض محمود

في 15 سبتمبر 2025 أصدر بنك السودان المركزي قرارًا يقضي بمنع القطاع الخاص من شراء وتصدير الذهب، وحصر العملية عليه أو على من يفوّضه. واليوم، 25 سبتمبر 2025، يكون قد مرّ عشرة أيام على القرار. ورغم الآمال بأن تُخفِّف الخطوة من الضغط على سوق النقد الأجنبي، واصل الجنيه السوداني تراجعه، فوصل الدولار إلى نحو 3,600 جنيه والدرهم إلى حوالي 975 جنيهًا في السوق الموازي.
البنك أعلن أن شراء الذهب من المُعدّنين الأهليين سيتم بالجنيه السوداني فقط؛ وهذا يطرح سؤالًا جوهريًا: هل السعر المحلي الذي يعرضه البنك سيكون مجزيًا بما يكفي ليدفع المنتجين للتسليم رسميًا؟ أم أن الفارق مع السعر العالمي سيُبقي باب التهريب مفتوحًا؟
القرار يستهدف في ظاهره تجفيف التهريب وزيادة حصيلة النقد الأجنبي عبر التصدير المباشر؛ لكنه يواجه عقبات عملية واضحة. فالسوق التقليدي الذي كان يستوعب معظم الذهب السوداني لم يعد متاحًا بنفس السهولة؛ ما يثير تساؤلًا حادًا: ما هي الأسواق البديلة التي يمكن أن تستوعب صادرات السودان في المرحلة المقبلة؟ هل في آسيا؟ في تركيا؟ أم في أسواق ثانوية داخل أفريقيا؟
على الصعيد العالمي، البنوك المركزية لا تعمل كتجّار ذهب؛ وظيفتها الأساسية هي الاحتفاظ بالذهب كأصل احتياطي لتعزيز الثقة في العملة الوطنية وتوفير غطاء لمعاملات النقد الأجنبي. المبيعات أو المشتريات التي تنفذها تكون محدودة ومرتبطة بإدارة الاحتياطيات أو إعادة هيكلتها، وغالبًا ما تجري عبر بنوك مركزية أخرى أو مؤسسات مالية كبرى في صفقات معلنة وشفافة. أما الدخول في نشاط تصدير الذهب الخام بشكل تجاري ومنتظم فليس ممارسة معتادة للبنوك المركزية، وهو استثناء ظهر في بعض الدول الأفريقية لأسباب ضاغطة، لكنه لم يحقق نجاحًا مستدامًا.
التجارب الأفريقية بدورها تقدم دروسًا مهمة. ففي زيمبابوي احتكر البنك المركزي تجارة الذهب عبر ذراعه “Fidelity Printers and Refiners”؛ لكنه كان يشتري بأسعار تقل عن السعر العالمي، فهرَّب المُعدِّنون إنتاجهم إلى موزمبيق وجنوب أفريقيا؛ فانخفض الإنتاج الرسمي وارتفع التهريب حتى اضطرت الحكومة إلى منح تراخيص للقطاع الخاص. وفي غانا تولت شركة المعادن الثمينة الحكومية (PMMC) شراء ذهب التعدين الأهلي حصريًا؛ لكن اعتمادها على تسعير داخلي أقل من العالمي وتأخرها في السداد جعل نسبة كبيرة من الإنتاج تتسرّب عبر التهريب إلى توغو وبنين؛ وتشير تقارير إلى أن أكثر من 30% من الذهب الأهلي لم يمر عبر القنوات الرسمية. أما في الكونغو الديمقراطية فقد فُرض التسويق عبر قنوات حكومية في قطاع المعادن؛ لكن غياب الشفافية في العقود والتسعير جعل الشركات والمعدّنين يلجأون للوسطاء الإقليميين، فخسرت الدولة جزءًا كبيرًا من عائداتها المتوقعة.
هذه التجارب تظهر أن الاحتكار وحده لا يكفي لمحاربة التهريب أو رفع العوائد؛ بل قد يصبح حافزًا عكسيًا لهروب الإنتاج إذا غاب التسعير العادل والشفافية. وعندما يغيب هذان الشرطان، تكون النتيجة تراجع الإنتاج الرسمي وزيادة التهريب.
أما في السودان، فإن غياب التفاصيل التنفيذية يزيد من الشكوك؛ فلم تُنشر حتى الآن اللوائح التي توضّح آلية التسعير، ولا معايير اختيار المشترين، ولا خطة الإفصاح عن الكميات المجمعة والمصدَّرة وعائداتها. والقطاع الخاص الذي شكّل سابقًا العمود الفقري لسلسلة القيمة في التعدين الأهلي والتصدير أُقصي تمامًا؛ المُعدِّنون أُلزموا بالتسليم للبنك بسعر يحدده، والمصدّرون فقدوا دورهم في التمويل والنقل والتأمين، بينما لم يُثبت البنك بعد أنه قادر على إدارة هذه المنظومة المعقدة بكفاءة.
وعلى الرغم من مرور عشرة أيام، لم يتحسّن سعر الصرف؛ لأن دورة التصدير تحتاج وقتًا من الشراء إلى التحصيل؛ ولأن السوق الموازي ما زال يشكك في قدرة السياسة الجديدة على تحقيق عوائد ملموسة. والرهان كله الآن على أن يوفّر البنك سعر شراء جاذبًا بالعملة المحلية، وإلا فلن يتمكن من جمع ما يكفي من الذهب لتصديره أصلًا.
تبقى الأسئلة الحرجة التي لا مفر منها: متى ستتم أول شحنة تصدير فعلية؟؛ ما حجم الكميات المستهدفة؟؛ ما قيمة العائد الدولاري المتوقع؟؛ هل سيكون السعر المحلي الذي يعرضه البنك كافيًا لإقناع المُعدّنين بالتسليم؟؛ وأي أسواق بديلة ستفتح أبوابها للذهب السوداني؟
الخلاصة أن القرار قد يُعتبر خطوة جريئة للسيطرة على أهم مورد نقدي في البلاد؛ لكنه محفوف بالمخاطر. نجاحه مشروط بأمرين أساسيين: تسعير محلي مجزٍ يضمن ولاء المُنتجين، وتأمين أسواق خارجية بديلة تستوعب الذهب السوداني الخام. وإن غابت هذه الشروط، فسيتحوّل الاحتكار من وسيلة إنقاذ إلى عبء جديد يعزز قوة السوق الموازي بدل أن يضعفها.

Exit mobile version