رأي

إلى اللقاء مستر لقمان 

عبد اللطيف البوني 

في أول يوم لي بالمدرسة الأولية، جلست إلى جواره لا نعرف التعارف إلى أن جاء المدرس الذي ينده الأسماء فعندما قال لقمان أحمد قسم السيد قال جاري نعم، ولما كان الاسم غريباً عليّ كان أول خبر رجعت به من المدرسة أن جاري اسمه لقمان… عزمته وعزمني وتعرفت على أسرته كما فعل… فكانت هذة أول صداقة لي وأمضينا ست سنوات في تلك المرحلة مع إن سنواتها الافتراضية كانت أربع، لم نكن شطار ولكننا لم نكن بلداء ولكن كان هناك تسيب إداري فقد صادفنا انتقال المدرسة من مجلسية صغري إلى أولية..

نجحنا في الدخول لمدرسة كاب الجداد الوسطى وما أدراك ما المدرسة الوسطى يومها… يجلس للامتحان ستمائة تلميذ فيؤخذ منهم الأربعين الأوائل فقط (برضو يا لقمان تقول لي كنا بُلدا؟) ولما كان الناجحون كثر كان يُسمى الداخلون في المدرسة المعنية بالفائزين كما جاء عند صديق أحمد:

إن شاء الله يابسام

تتحقق الأحلام

وتظهر نتيجة العام

وتكون من الفائزين

في كاب الجِداد الوسطى سكنا في داخلية واحدة لا بل في عنبر واحد وبالطبع في فصل واحد طوال المرحلة .

وهناك اكتسب لقمان لقب المستر لأنه مَثّل دور خواجة في إحدى مقررات الجغرافيا تسمى (سبل كسب العيش في العالم) كما أنه كان مبرزاً في اللغة الإنجليزية وكان أستاذنا محمد حسن عجاج الموسيقار المعروف معجباً جداً بلقمان ويصف الإنشاء الانجليزية الـ Composition

بأنها سينماء، كان لقب المستر حكراً على أبناء الدفعة وبعض الأصدقاء… كنا يوماً خارج أسوار المدرسة نتبادل الحفظ ومن القصائد المقررة علينا قصيدة الصباح الجديد لأبي القاسم الشابي والتي جاء فيها:

لم يعد لي بقاء فوق هذي البقاع

فالوداع يا جبال الهموم

يا هضاب الأسى

يا فجاج الجحيم

لقد جرى زورقي في الخضم العظيم

فقلت للقمان إن شاء الله بعد نضع آخر ورقة في الامتحان وبعد أن نربط شنطنا أقيف في (قيفة الترعة دي) أي ضفة القناة الفرعية هذه… واقبل على المدرسة وأقول أبيات الشابي دي…

نسيت الموضوع وبعد أن انتهينا من الامتحان النهائي قال لي لقمان يا حلبي ما تنسى حليفتك يلا أمشي على الترعة وودع المدرسة بأبيات الشابي وانا بمشي معاك.. فعلا ذهبنا إلى الترعة المعنية فاستقبلت المدرسة فغلبني ترديد أبيات الشابي وبالمقابل انهمرت دموعي فقلت له يا لقمان إننا الآن نودع أجمل أيام في حياتنا علماً وأدباً وفكراً وصداقة… أقل حاجة وأنا وإنت ما حانمشي مدرسة ثانوية واحدة…

وبالفعل صدق حدسي فقد كان لقمان محظوظاً إذ التحق بمدرسة الخرطوم الثانوية القديمة التي تجاور داخلبات جامعة الخرطوم… البركس… أما أنا فقد وزعت في مدرسة جديدة بالجزيرة.. عدة مدارس أقيمت على انقاض مدرسة وادي سيدنا العريقة التي حولها نميري الي الكلية الحربية..

ونحن في أولى ثانوي زرته في الخرطوم القديمة.. وكانت تلك أول مرة أشوف فيها الخرطوم بالليل وأبيت فيها… فأخذني إلى سينما الحلفايا ببحري وكانت هذة أول مرة أدخل فيها سينما وكان الفليم اسمه (شي من الخوف) بطولة السندريلا سعاد حسني، وفي لقطة من الفليم كانت البطلة في المطار فسألها ضابط الجوازات من جهة القدوم فقالت من الخرطوم فهاجت السينما وماجت وهاك يا صفير َويا تصفيق فأعاد مهندس السينما المشهد ثلاث مرات وفي كل مرة كانت حرارة الجمهور تزداد وبعد أن استمر الفليم وعم الهدؤ صاح أحد الحضور وهو خارج (على الطلاق دا يومي التالت أنا بجي بس عشان اسمع كلمة الخرطوم من سعاد حسني) أمانة يا الخرطوم ما كنتي… يا حليلك…

بعد الثانوي التحق لقمان بسلك التدريس وتزوج بعد عام واحد ولكننا اقنعناه وبمساعدة زوجته الكريمة أن يواصل الدراسة العليا فقد كانت درجاته في الكيمياء والانجليزي عالية جدا فالتحق بمعمل استاك وكان في أول دفعة بكالريوس فيه… ثم كان من المؤسسين الأوائل لمختبرات مستشفى سوبا الجامعي، وفي مطلع الثمانيات التحق بمختبرات جامعة الملك سعود بالرياض ليمضي أكثر من نصف عمره هناك وفي الاثناء نال درجة الماجستير في علم أمراض الدم وظل هناك إلى ان وافته المنية يوم أمس الخميس وسيصلي عليه اليوم الجمعة الرابع من يوليو 2025 وربما في هذة الساعة من كتابة هذا المقال..

لقد عاش لقمان حياة مليئة بالعمل والبذل والعطاء كان بارا بأهله كريما على كل معارفه مهتما بشأن القرية، كان في طليعة المتصدين للعمل العام خاصة فيما يتعلق بمستشفى القرية .

رحل لقمان وقلبه يتفطر على السودان الذي كان غائباُ عنه بجسده فقط.. في آخر إجازة له بالسودان ذهبت لوداعه وكان ذلك قبل الحرب الحالية بسنة، فحملت معي بعض خيرات الحواشة من كركدي وعدسية وكبكبي والذي منه… فقال لي إنه سوف يوزعها كلها عشان الناس ديل يعرفوا إنو أرض السودان فيها المافي في الدنيا كلها.. لم أسأله عن من هؤلاء الناس…

عندما اجتاح الدعامة الخرطوم والجزيرة فقد لقمان كل أملاكه من عربات وأمتعة وتم العبث بمنزليه في الخرطوم واللعوتة فقال لي ضاحكاً تعرف يا حلبي الحاجات دي نحن أصلاً ما جمعناها لروحنا فبالتالي الدعامة ديل يكونوا شفشفوها من غيرنا فالغيرنا ديل ياكلوا نارهم بطريقتهم. ونحن ناخد راحتنا وبالفعل أخذ راحته أمس الخميس إثر عملية قلب مفتوح فكان يوماً حزيناً على كل القرية خاصة معارف لقمان وعارفي فضله.. أسرتي الصغيرة كللها الحزن إتصلت بي زوجتي الحاجة نجاة باكية معزية فموت لقمان أعاد لذاكرتها الأصدقاء الذين رحلوا فعددتهم لي فقلت لها انتي شايفا إن الدور بقي علي زولك ولا شنو؟

اللهم لا اعتراض على حكمك… لكن أها وبعدين معاك يا سودان الجن هاهو لقمان الذي أحبك يموت ويدفن بعيدا عن مضارب الأهل وها نحن نستقبل خبر رحيله وحيدين وبعدين أيضا وليس لنا إلا هذا الموبايل نجتر فيه ذكرياتنا ونسكب فيه أحزاننا…

صادق تعازينا لكل الأهل والمعارف عامة ولأبناء لقمان الدكاترة (رانية وأحمد وخولة وأيمن) ولزوجته الأستاذة العظيمة الصابرة المكلومة (السرة بت حميدان) كما كان يناديها…

اللهم تقبله عندك قبولا حسنا واجعل قبره روضة من رياض الجنة واجعل البركة في ذريته والهمنا الصبر على فراقه.. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

نقلا عن موقع “المحقق”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى