إسرائيل ونهاية الدور الوظيفي ما بعد نفط العرب وأوهام الحليف الأبدي

عبدالعزيز يعقوب
(1)
لم تكن إسرائيل، منذ نشأتها، مشروعًا خالصًا لنصرة اليهود أو ترجمة لقيم “الديمقراطية” كما رُوّج في الرواية الغربية، بل جاءت بوصفها أداةً استراتيجية خُلقت لتؤدي وظيفة سياسية وأمنية ضمن بنية النظام الاستعماري الجديد. في قلب شرقٍ كثير الاضطراب، وُضعت إسرائيل على أطراف الجغرافيا لا لتستقر، بل لتبقى في حالة تأهّب دائمة، تلوّح بالقوة عند الحاجة، وتُعيد ضبط التوازن حين تمس مصالح الغرب، لا سيما في لحظات التهديد المرتبط بأمن الطاقة.
لم يكن دورها مرتبطًا بحماية مواطنيها بقدر ما كان متصلاً بحماية المعادلة التي تضمن تدفق النفط واستمرار الهيمنة الغربية. وبمرور العقود، أثبتت إسرائيل فاعليتها كقوة إقليمية قامت بأدوار متعددة: من خوض الحروب بالوكالة، إلى كبح صعود القوى الراديكالية، إلى ممارسة الردع ضد محاولات التحرر السيادي في المنطقة. لقد كانت مفيدة، لا لأنها متفوقة أخلاقيًا أو ثقافيًا، بل لأنها أدّت وظيفة واضحة في حماية الهيكل الاستراتيجي لاقتصاد الغرب ومنع انفلات الشرق من عقال الهيمنة.
(2)
لكن الزمن لا يعترف بوظيفة أبدية. ومع التحوّلات التكنولوجية الكبرى، وتبدّل مصادر الطاقة، وانخفاض اعتماد واشنطن على نفط الخليج، بات من المشروع التساؤل: هل لا تزال إسرائيل ضرورة استراتيجية؟ أم أنها تتجه نحو موقع الحليف الذي فقد مبرر الاستثناء، وبات عبئًا سياسيًا وأخلاقيًا؟
قواعد اللعبة تغيّرت. الولايات المتحدة، التي كانت تضع مضيق هرمز تحت حراستها كما لو كان أحد حدودها القومية، باتت تفضّل أنابيبها المحلية ومصادرها البديلة على بوارجها في الخليج. لم تعد الصحراء أولوية، بل تحوّلت البوصلة نحو آسيا، حيث تتقاطع المصالح في سلاسل الإمداد والتقنية والذكاء الاصطناعي.
في هذا السياق، يتراجع الدور التقليدي لإسرائيل ككتيبة متقدمة تحمي المصالح، وتتحول تدريجيًا إلى جدار أيديولوجي مرتعش، يبرر وجوده بخطابات الأمن لا بفاعلية استراتيجية حقيقية. ولم تعد صورتها – كـ”واحة ديمقراطية” – كافية لتبرير دعم مطلق، خاصة مع انكشاف سلوكها في غزة، وتصاعد نفوذ اليمين الديني، واشتداد الانقسام المجتمعي داخلها.
(3)
لقد أصبحت إسرائيل اليوم في مواجهة مكشوفة مع صورتها السابقة. فصعود اليمين المتطرف، وانتهاكات حقوق الإنسان، ومشهد الدمار المتكرر في غزة، لم يعد أمرًا محجوبًا خلف خطاب النقاء الأخلاقي. أمام أعين الأجيال الأمريكية الشابة في الجامعات، التي تستهلك الأخبار من مصادر متعددة وتخضع الروايات للمساءلة، لم تعد إسرائيل تبدو كدولة صغيرة محاصرة، بل كقوة مدججة تمارس العنف كوسيلة للسيطرة.
ومع أن الدعم الرسمي لا يزال قائمًا – بما في ذلك المساعدات العسكرية السنوية التي تبلغ 3.8 مليار دولار – إلا أن تغير المزاج الشعبي داخل أمريكا، لا سيما في أوساط الشباب والتيارات التقدمية، بدأ يطرح أسئلة جوهرية حول مغزى استمرار هذا الدعم، وتكلفته الأخلاقية على صورة واشنطن في العالم.
(4)
في هذا المفصل التاريخي، تدخل إسرائيل مرحلة الخطر الحقيقي حين لا يعود لها دور وظيفي واضح، ولا تبقى لها شرعية أخلاقية تبرّر استمرار الدعم. تصبح آنذاك عنصر توتر لا توازن. وهذا ما قاد بعض صنّاع القرار في واشنطن – خاصة ممّن ينظرون للسياسة من زاوية الجدوى لا العقيدة – في إدراكه. فالعقيدة وحدها لم تعد كافية لتبرير التحالفات، في عالم تتغير فيه خرائط المصالح بوتيرة متسارعة.
حتى دونالد ترمب، الذي لا يُعرف برومانسيته السياسية، بل بمنطقه التجاري–العقدي، فهم هذا التحول مبكرًا. تجاهله المتكرر لإسرائيل في خطاباته ومبادراته، لم يكن سهوًا دبلوماسيًا بل رسالة ضمنية ان لا قداسة في التحالفات، ولا ثبات في الولاءات. من لا يضيف قيمة، يمكن تجاوزه، ولو كان حليفًا تاريخيًا.
(5)
ومع ذلك، فإن المشهد لا يُختتم بدراما شاملة، بل بانسحاب تدريجي من مركز الحدث. فالمسألة ليست عداءً لإسرائيل، بل إعادة تعريف للمصالح. وإن لم تنجح إسرائيل في تجديد وظيفتها ضمن سياق عالمي متحوّل – عبر الاقتصاد الرقمي، التفوق السيبراني، أو دور تقني فاعل – فإنها قد تجد نفسها على هامش المعادلة، يثقلها تاريخها الدموي، ويكبلها عجزها عن مواكبة التحولات.
عند تلك اللحظة، يصبح السكوت عنها أذكى من الدفاع، ويغدو التخلي عنها أهون من تحمّل تبعاتها. وهكذا تبدأ نهايات النفوذ لا بالانهيار العنيف، بل بخفوت الدور، وتآكل الاستثناء، وانسحاب الحليف من شرفة التاريخ بهدوء محسوب.