أهمية الصداقات… معنى أن تكون حسن الأخلاق منتصرا على الصغائر

كمال الدين بلال
وجهتُ الأسبوع الماضي رسالة إلى الابن «محمد» وشقيقه الأكبر «منتصر»، اللذين التحقا بدراستهما الجامعية في ماليزيا، حيث شرحتُ لهما في الرسالة أهمية تكوين صداقات تعينهما على مواجهة تحديات الغربة. وقد استدللتُ على المعنى الحقيقي للصداقة من خلال تجاربي الخاصة، فقصصتُ لهما تجربتي الإنسانية مع صديق الطفولة، المرحوم «حيدر موسى»، الذي تغلّب على ظروفه المحبطة، وجعل منها دوافع محفزة للنجاح، ليضرب لنا بذلك مثلًا يُحتذى في معنى أن يكون الإنسان عصاميًا.
وفي هذه السانحة، أقص لكما وللقارئ العزيز، قصة صديق آخر أسهم في تشكيل شخصية والدكما، حتى إنني سميتُ عليه ابني الأكبر. إنه ابن المناقل البار، الذي نُحت اسمه بأحرف من نور ونار في وجدان مواطني تلك البقعة الطيبة، التي تحلق طموحات سكانها فوق قمم الجبال.
أعني صديقي الدكتور منتصر محمد الأمين سر الختم، ذلك الشاب الوضيء، صبوح الوجه، الذي كان رفيق دربي طوال مراحل حياتي، إلى ما بعد التخرج من الجامعة.
كان منتصر، منذ طفولته، متدينًا يؤدي واجب الرفادة في مسجد الشيخ الورع يوسف ود بقوي (رحمه الله)، حيث كان، برفقة أصدقائه، يكنس المسجد صباح كل جمعة، ويملأ الأزيار والأباريق ليتوفر للمصلين ماء للشرب والوضوء. وكان يؤمّ أقرانه في الصلاة، إلى أن حدثت واقعة طريفة، حين أخبرنا أحد المتفقهين، ونحن في سن المراهقة، بأنه لا يجوز للصبي أن يؤمّ من بلغوا الحُلم. ولأن منتصر كان صغير الحجم مقارنة بي، فقد عقد لي أصدقائي لواء الإمامة، إذ حباني الله ببُسطة في الجسم، ما جعلهم يرجّحون أنني بلغت الحُلم، رغم أن منتصر كان أعلمنا وأورعنا.
كان ذكيًا بلا رياء، ووسيمًا بلا زهو، واحتكر المركز الأول أو الثاني في دفعتنا منذ الصف الأول، يتبادله مع الصديق الدكتور «إبراهيم مامون». ولا أنسى أنه أحرز الدرجة الكاملة في مادة الرياضيات في الشهادة السودانية عام 1986، رغم وقوع لجنة الامتحانات في خطأ في إحدى المسائل، وقد أخبرني منتصر بأنه قام بتصحيح صيغة السؤال حتى يصبح قابلًا للحل.
كان هادئًا ومهذبًا، ولم يترك غياب والده الطويل بسبب الاعتقالات السياسية الجائرة أثرًا سلبيًا في شخصيته. فقد كان والده، مسؤول الحزب الشيوعي بغرب الجزيرة، شخصيةً تحتفي بها المجالس لفصاحته وشجاعته في مواجهة الظلم. أما منتصر، فقد كان متوازن الشخصية بفضل والدته الفاضلة، «هدى»، التي ملأت بشخصيتها الفريدة فراغ غياب الوالد، وساعدها منتصر في تربية إخوته وأخواته.
كان قليل الكلام والمزاح، وإذا شغلتنا مناقشات كرة القدم – التي لم يكن يفهم فيها كثيرًا – كان ينصرف إلى القراءة حتى نفرغ من مهاتراتنا. وإذا دخل فجأة ونحن نخوض في ترهات المراهقة، صمتنا احترامًا له.
هذا، يا أبنائي، غيض من فيض ملامح شخصية منتصر، التي يصعب سبر أغوارها إلا من قبل الراسخين في العلم.
تخرّج في كلية الطب بجامعة الجزيرة، وعمل طبيبًا لعدة سنوات في السودان، عانى خلالها من ضعف العائد المادي، ثم اغترب إلى المملكة العربية السعودية ليتحمّل مسؤولية أسرته بعد وفاة والده (عليه رحمة الله)، خاصةً أنه كان أكبر إخوته. ولم تمكنه ظروف العمل من الحضور إلى السودان لإتمام زواجه ممن اختارها قلبه، فانتقلت إليه زوجته المصون.
لكن للأسف، لم يهنأ بعرسهما طويلًا، فقد عاجلته يد المنون، وتوفي في حادث سير مؤسف، وهو عريس لم يكمل يومه الأربعين، فاختلط دمه الطاهر بخِضاب حنّاء عروسه، ورحل عنّا ولم يترك وراءه ولدًا صالحًا يدعو له، بل أصدقاء أحبّوه في الله وفارقوه على حبه.
فُجعت أسرته بهذا الفقد الجلل، وبكته المناقل كما لم تبكِ أحدًا من قبل. وعلى المستوى الشخصي، تسببت وفاته المأساوية في تفجّر ينبوعٍ دفاقٍ من الدموع لم تجففه السنين.
وزاد ألمي أن المرحوم لم يُدفن في السودان، حتى أتمكن من زيارة قبره والسلام عليه، إذ توفي أثناء استقراري في هولندا. ولكن عزائي أنه دُفن في خير أرض الله قاطبة، أرض الحرمين الشريفين.
تذكرت، بعد سماعي لخبر وفاته من شقيقي «جلال»، موقفًا كنا – أنا والمرحوم – من أبطاله، حين كنّا ندير، ومعنا أربعة من أصدقائنا، مناقشات فكرية وفلسفية أسهمت في تشكيل بواكير وعينا المعرفي. وقد كان منتصر رائد تلك المساجلات، وملهمها، وحادي ركبها. وفي أحد الأيام، كان موضوعنا عن فلسفة الموت.
ختم النقاش أحدنا – وأظنه «عبد الرحمن محمد عبد الرحيم»، خال منتصر، أو «عاطف مصطفى» – بسؤال: من منا سيموت أولًا؟
فكان رأي الدكتور «التجاني موسى» أن «إبراهيم مامون» هو أول المغادرين، لأنه شقي وكثير الحركة مما قد يورّده موارد التهلكة. أما إبراهيم فرأى أنني سأكون أول «المراحيم»، بسبب ضخامتي الجسدية وعلاقتها بالأمراض القاتلة. أما أنا، فقلت: إن منتصر سيكون أول المتوفين، وعللت ذلك بقول أهلنا: “الموت كالجزار، يختار أفضل الذبائح”، ومنتصر كان أفضلنا.
أسأل الله أن يرحمه رحمة واسعة، ويسكنه فسيح جناته، فحسن ظني بربي أن الجنة خُلقت لأمثاله.
تلك، يا أبنائي، قصة منتصر، الذي أسميتُ أحدكما عليه تيمّنًا بأن يحمل بعض صفاته ومآثره، وأن يكون له خلفًا في تحقيق الانتصارات. وقديمًا قيل: “لكل امرئٍ من اسمه نصيب”.
أنصحكما أن تتخذا لكما رفقاء دربٍ حسني الأخلاق، من حاملي المسك، حتى تحققا طموحاتكما، وتعودا بشهادات أكاديمية، وتتركا خلفكما سيرة عطرة.
فقد كانت شلّة المرحوم منتصر تتكوّن من أشخاص يمتازون بدماثة الأخلاق، وكان فاعل اللمم (صغائر الذنوب) منهم يستغفر الله في سره وعلنه، وكانوا متفرغين لدراستهم، بعيدين عن معاقرة السياسة، ليقينهم بأنها تُمارَس في بلادهم كلعبة (الدافوري) التي لا تحكمها قوانين ولا أخلاق.
وعندما شذ دكتور منتصر عن هذه القاعدة في المرحلة الجامعية، لم يرضَ بالدنيئة في فن الممكن (السياسة)، فكان له الصدر دون العالمين، وانتُخب رئيسًا لاتحاد طلاب جامعة الجزيرة في أصعب سنوات الإنقاذ الحالكة.
رحم الله دكتور منتصر محمد الأمين سر الختم.
لا أجد من الشعر ما يُجسّد مسيره ومصيره إلا قول شاعرنا صلاح أحمد إبراهيم في قصيدة “نحن والردى”:
يا منايا حوّمي حول الحمى واستعرضينا واصطفي
كل سمح النفس بسّام العشيات الوفي
الحليم العفّ كالأنسام روحًا وسجايا
أريحيّ الوجه والكفّ افترارًا وعطايا
فإذا لاقاك بالباب بشوشًا وحفيّا
بضمير ككتاب الله طاهر
انشبي الأظفار في أكتافه واختطفي
وأمانَ الله منّا يا منايا
كلما اشتقتِ لميمونِ المحيا ذي البشائر… شرّفي
تجدينا مثلًا في الناس سائر
نقهرُ الموتَ حياةً ومصائر.