رأي

اليسار والإسلام: ما لينا غيرك يا الله (1-2)

عبد الله علي إبراهيم

هذه كلمة عائدة إلى 2012 في أثر الربيع العربي نشرتها على “الجزيرة نت”. وهي عن البغضاء المتبادلة بين اليسار والليبراليين وبين الإخوان المسلمين وبصمتها على الربيع العربي. وأعيد نشرها وقد رأيت الفجور في الخصومة (لا الخصومة) التي استهلكتهما لعقود حتى مسخا السياسة فعقمت حتى لم تعد في خدمة أي أحد غيرهما. وتقع الكلمة في باب وعي بالدين في اليسار انشغلت في البحث فيه والنشر في بابه منذ حل حزبنا الشيوعي بتهمة الإلحاد. وهو وعي اقتحم نظرية الحداثة التي قامت على عقيدة أن للدين عمر افتراضي بلغ أرذله. وكان أستاذنا عبد الخالق محجوب من وضع لبنته في تقريره “قضايا ما بعد المؤتمر الرابع” (1968) الذي هو نقلة من “الدين افيون الشعوب” وصيغتها المشهورة “استغلال الدين” إلى أن الدين هو روح مجتمع بلا روح، عبارة ماركس المغيبة.
(1)
أزعجني ما نقله الأستاذ فهمي هويدي (جزيرة نت5 يونيو 2012) عن الباثولوجيا السياسة في مصر التي تباغض فيها اليسار والإخوان تباغضاً ذهب بالرشد. ففي حالة مـتأخرة من هذا الداء الوبيل قال اليسار إن أحمد شفيق، مرشح “الفلول” مَثَل للدولة المدنية بينما مرسي، الإخواني، مثل للدولة الثيوقراطية الفاشية. ولا غلاط أن هويدي ناقد غير راحم للإخوان بما لا مزايدة عليه. ولكن ساءه أن يضل النقد لهم فيصير إحناً. وجاء بعبارة عن هذه الباثولوجي ذكرتني بما قلته مؤخراً عن هذا التباغض بين الجماعتين في السودان. قال هويدي مستنكراً انشغال اليسار بتكريس كراهية “الإخوان أكثر من انشغاله بالاصطفاف دفاعاً عن محبة الوطن”. وقلت لشاب أسرف في نقد حكومة “الكيزان” (وهذا اسم الإخوان السائر عندنا) حتى اشفقت عليه. فقلت: “اسمع. هل تريد حكومة تكرهها أم وطناً تحبه؟” ويبدو أن اليسار إذا جنح للفلول (في نصر) بغضاً للإخوان بحاجة إلى أن تقرع له العصاة التي تقرع لذي الحلم.
(2)
لم نول كلمة هي من آخر كلمات القذافي ما تستحقه من نظر. قال القذافي للثوار الذين خرج عليهم من المخبأ: “شنو في صائر؟”. وهي عندي أهم رمزياً ومعرفياً من خطاب “زنقة زنقة” الذي تعلقنا به. فالرجل مصر، والثورة أقرب إليه من حبل الوريد، ألا شيء حدث أو يستدعي الحدوث. وبدا لي أن بين اليسار من اضطر إلى ترديد عبارة القذافي، ولو في سره، حين اتضح له أن سقوط القذافي وغيره من الفراعين لم يكن مجرد تغيير سياسي، بل تحولاً ثقافياً لم يتحسبوا له. فما وقعت عين اليسار على “القتلة الملتحين من مصراتة” حتى أنكروا ما حدث وفكوا ارتباطهم الوجداني بالربيع العربي. بل وصفه بعضهم ب”الشتاء” لغلبة الإسلاميين فيه. واتخذوا غريزياً مواقعاً دفاعية من الخطر الملتحي القادم ربما أزهدتهم في استكمال الثورة وأدنتهم شيئاً فشيئاً من رؤية الإسلاميين كالخطر الحق لا النظام القديم.
اشمئزاز اليسار من “عودة الدين” كمنتوج للربيع العربي، ونجاحات الإسلاميين في “استثماره” حجب عنه أن الربيع العربي ربما لم يكن ثورة بالمعنى المعروف. فهو بلا شعارات من تلك التي ترسم برنامجاً قادماً للحكم. فحتي هتاف “الشعب يريد تغيير النظام” سره في بطنه. وكانت المظاهرات حالة ” ذكر رباني” مشبوب وسغبان:
يا الله يا الله
ما لينا غيرك يا الله
بل انعقدت هذه المظاهرات (وهي طقوس خام أكثر منها مناسبات سياسية) في زمن لاهوتي لا ناسوتي في يوم الجمعة من كل أسبوع. فقد أزهدتهم النظم الحاكمة الباطشة في انتظار مجتمع سياسي فاضل. وصار مطلبهم مجتمعاً آدمياً يخرجون به من التوحش للإلفة. وسيفكرون في المعاش، وهو السياسة، بعد وفي وقتهم المناسب. فارتدت بهم نُظُم الحكم التي أنشبت أظافرها فيهم كانت إلى الغاب أو أضل سبيلا. وأبلغ تعبير عن هذا ما سمعته عن متظاهر سوري من فرط حيوانية القهر قال:
– انا إنسان ماني حيوان. يا الله
ولما رأى الناس الإسراف في الموت وقتل الناس جميعاً، مما يقع من التسونامي والهيروكين، ويقصر عنه الاجتماع الإنساني، طلبوا الأمن في وجود أعلى ومتجاوز. ولم يمحضوا ثقتهم حتى لدولة المستقبل المنتظرة.
(3)
لم ير اليسار من هذا المشهد الوجودي سوى ثأره القديم مع الإخوان المسلمين حول شأن الحكم. وهو ثأر تمكن منه ومن الإخوان المسلمين في سياق تحالف الأوائل مع بواكير هذه النظم العربية المستبدة. وهو تحالف يغض اليسار الطرف عنه. فالنظم الأكثر توحشاً خرجت من الشفرة اليسارية العالمية والمحلية في مزدوجة الحزب الواحد التي رمت بالحقوق الديمقراطية البرجوازية مع ماء الغسيل الثوري. وربما كان اليسار نفسه أكثر من شقي بهذه النظم التي أخذت مشروعيتها الأصل منه.
ما أن رأى اليسار خصمه الملتحي المنتصر حتى تراجع إلى صدفته الحداثية الأولى التي اتفقت له في الخمسينات. فالدين في الحداثة الأوربية الأصل، التي ترعرع يسارنا على مصطلحها، آيل للزوال لا محالة بعد “موت الإله” واندياح عصر الأنوار والعقل. ولذا نظر الحداثي لمن ينشط في السياسة بالدين ك”متسلل”. ولم تستثر اليسار وجودية الصحوة الإسلامية الحاضرة فيذوقها بغير اعتبار للخصم الملتحي الذي ربما لم يتفق له هو نفسه المغزى العميق لتلك الصحوة.
استنكر اليسار هذه الحالة الدينية المشبوبة بدلاً عن عناقها وفض سرها. فأطلقوا عليها جزافاً “الإسلام السياسي” أو “التأسلم” لتعكيرها السياسة بمصطلح عفا عليه الدهر استغله “الملتحون” لتأليب الجاهلين لأغراضهم. فأتفق لليسار المصري، في قول سامح نجيب، إن حركات التجديد الإسلامي تنظيمات سياسية توظف الدين بصورة انتهازية لبلوغ السلطان. والتسمية، الإسلام السياسي، مقصود بها نزعهم من الدين الذي يعتقد رفعت السعيد مثلاً أنه خرج للدفاع عن صحيحه. وما ارتفعت سيوف في الإسلام مثل تلك التي ارتفعت دفاعاً عن صحيح الدين. ولا يعدو التأسلم، في رأيه، أن يكون أداة من أدوات الطبقة الرأسمالية الكمبرودورية-التابعة لتمكين حكمها. فالتأسلم يتكامل مع العولمة والرأسمالية والليبرالية الجديدة ويخدمها.
والتأسلم عند اليسار ردة ثقافية. فقال الكاتب هاشم صالح إننا كلما خرجنا من القرون المعتمة عدنا إلى الإسلامية الإخوانية بعد تحليق رشيق على القومية والماركسية والليبرالية والاشتراكية والحداثة وما بعد الحداثة. وتجد أبلغ بيان على استهداف اليسار للرسول، الإخوان، لا الرسالة في تحسب هاشم أن تأتي الديمقراطية بالإسلاميين. وبدلاً من يستصحب هاشم الديمقراطية لفهم حقائق الدين المستجدة قرر أن يستغني عن الديمقراطية ذاتها لأن الشعب، الذي تشرئب فيه إشراقة هذا النزوع الديني، غارق في الفقر مشغول بتأمين لقمة الخبز لأسره. فالديمقراطية لا يستحقها إلا الشعب المستنير. وروى عن توماس جيفرسون أنه سئل:
-ماذا لو وصل شخص محمدي، أي مسلم، أو حتى شخص ملحد، إلى رئاسة الدولة؟
-فليكن إذا انتخبه الشعب الأمريكي السيد الحر المستقل فإننا سنقبل به.
ويبدو من قول هاشم إن موعدنا مع الديمقراطية إما تأخر كثيراً أو أنه لن يأت.
ورغم نعى هاشم لخلونا من إرث تنويري كالغرب إلا إنه، متى ما حرمنا من الديمقراطية، حكم علينا بالمؤبد في التخلف لأنها حاضنة التبشير برقائق التنوير.

غلاف تقرير استاذنا عبد الخالق محجوب”قضايا ما بعد المؤتمر الرابع” لدورة اللجنة المركزية (يونيو 1968).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى