رأي

عادل الباز يكتب: بنك السودان.. الصمود وسط الحريق

فيما أرى

1
لم أصدق عيني وأنا أقرأ سياسات بنك السودان المركزي للعام 2024 الصادرة نهاية العام الماضي (31 ديسمبر) ولكم سعدت بذلك، سعدت لأن هناك مؤسسة وسط هذا الحريق تقف متماسكة، بل وقادرة على أن تُصدر سياسات وتدير النظام المصرفي.. إذا كان للحرب وجه آخر للصمود مع القوات المسلحة فهو بنك السودان بلا شك.. ماذا فعل؟.

2
منذ أن بدأت الحرب جرى احتلال بنك السودان وتم نهبه وتعطلت كل الأجهزة بل دمرت تماماً، بما يعني أنه فقد الاتصال بكل أجزاء الجهاز المصرفي وفقد المعلومات التي كانت مخزّنة بتلك الأجهزة. كانت تلك كارثة بحق لم يحدث لها مثيل في تاريخ السودان ولا أحد كان يمكنه أن يتصورها أو يخطط لها، وأقصى ما كان يمكن التفكير فيه هو نشوب حريق في البنك، ولكن جاء الهمج وفعلوا بالبنك ما كان فوق الخيال. قال منشور البنك المذكور أعلاه (تم تدمير البنيات التحتية للبنك المركزي ورئاسات البنوك وبعض فروعها ببعض الولايات وماكينات الصراف الآلي والنظم المصرفية والخدمات).
رغم تلك الكارثة لم يلبث العاملون إلا قليلا حتى قبلوا التحدى واستجمعوا كل خبراتهم واستعادوا بسرعة المعلومات التي كانت مخزنة في أمكنة أخرى وجرى ربطها بأجهزة خارجية وأصر كثير من موظفي البنك على المغادرة لبورتسودان في تلك الظروف الخطرة وبالفعل وصلوا وواصلوا عمل البنك من هناك.

3
لا يعرف كثير من الناس كيف احتفظت البنوك بأرصدتهم بعد أن تدمر كل شيء فيها! ولا كيف واصلت التطبيقات البنكية عملها بسلاسة وخاصة تطبيق (بنكك)!! ولحقته بعض التطبيقات الأخرى مما مكن عملاء البنوك من الاستفادة من أرصدتهم وشراء ما يحتاجونه من سلع وخدمات. ذلك الإنجاز الذي حدث في زمن قياسي خلفه عقول وخبرات وجهد حقيقي.

4
محافظ بنك السودان على تماسكه مضى لدعم المجهود الحربي بإعادة تنظيم قطاع الصادرات بسرعة بالاستفادة من العائدات المتنوعة. واستطاع بنك السودان أيضاً المحافظة على علاقاته الخارجية ومراسيله مما أتاح للبنك مواصلة عمله بسهولة في مجال الصادرات والواردات وأبقى الثقة في البنوك السودانية قائمة رغم الحرب والتدمير والنهب. واستمر فتح الاعتمادات وعمليات التمويل رغم محدوديتها مما جعل البنوك حيّة وفاعلة.

5
مكّن أداء بنك السودان ودخله من عوائد الصادرات المختلفة من الاستمرار في المحافظة على تدفق السلع الاستراتيجية التي خصص لها من تلك العائدات النسبة الأكبر وخاصة الوقود الذي يعتمد عليه إنتاج الذهب وكما يعتمد عليه الجيش في كل تحركاته وآلياته.

6
تمكن البنك أيضاً من دعم المجهود الحربي بترتيب الأولويات وجعل الانتصار في الحرب هى قمة الأولويات التي تستحق أن توجه لها الآن كل الموارد.
وقد ذكر الرئيس البرهان في أكثر من مناسبة أن هذه حرب السودانيين ولم تعينهم فيها أي دولة في العالم وأنهم يحاربون بمواردها الذاتية، وهذه معجزة أن يصمد السودان في حرب يتمتع فيها العدو بخزائن مفتوحة لدول لها مليارات الدولارات في بنوكها كاحتياطيات ولها مئات المليارات في صناديقها السيادية، في حين كان احتياطي بنك السودان أقل من 100 مليون دولار وقت نشوب الحرب.!!. أضف لذلك الأموال المنهوبة من قبل الجنجويد إضافة لما نهبوه من البنوك وأموال المودعين و’شفشفة” أموال كل المواطنين وحصاد إعمارهم، كل ذلك مكنهم من مواصلة شراء الأسلحة والتشوين ورشاوى العملاء داخلياً وشراء القادة الأفارقة المرخصين خارجياً.

7
من بين الأهداف والسياسات التي أعلن عنها بنك السودان للعام 2024 توقفت عند هدفين تسعى السياسة الجديدة لإنجازها، أولهما بحسب المنشور (تشجيع إجراء عمليات الدمج والاستحواذ وتشجيع المساهمات الأجنبية في رؤوس أموال المصارف والمؤسسات المالية، تشجيع المساهمات الأجنبية في رؤوس أموال المصارف والمؤسسات المالية). هذه السياسة المطالبة بها قديمة ولكن عجزت أيا من الإدارات السابقة للبنك أن تدفع باتجاهها رغم أن الحالة التي وصلت إليها بعض البنوك السودانية من ضعف رساميلها كان يجب المسارعة في إتمام عمليات الدمج، فرساميل بعض البنوك مخجلة وكذلك فإن دعوة البنوك الأجنبية للاستثمار داخل السودان أو بإقامة فروع تعتبر الآن ذات أهمية قصوى وخاصة أن لدينا تجربة ناجحة حين دخل مستثمرون أجانب وبنك دبي فى بنك الخرطوم وفتحوا له منافذ بالخارج، بل أصبح الخرطوم ومعه بنك النيلين هما النافذتان الأساسيتان للتعامل الخارجي.
وبالمناسبة سربت دوائر اقتصادية بأن هناك توجه من دولة الإمارات لإغلاق بنك النيلين أبوظبي مما يعني المزيد من الحصار المالي المضروب على البلاد ولابد من اتخاذ التدابير اللازمة لأن بنك النيلين واحد من أربعة بنوك تنحصر فيها التجارة الخارجية للسودان (السلام البحرين) وبنك أبوظبي وبنك الخرطوم ملك بنسبة كبيرة لبنك دبي تكاد تكون هذه يستحوذ على أكثر من 90% من المعاملات الخارجية في مجال الصادرات والواردات والتحويلات الخارجية.

8
الهدف الثاني الذي يستحق التركيز في انفاذه هو ضبط السيولة وخاصة بعد النهب الواسع الذي شهدته البلاد. وتهدف السياسية الجديدة ( لخفض معدلات التضخم إلى رقم ثنائي بنهاية العام 2024 ومتوسط معدل تضخم في حدود 155% في المتوسط خلال العام 2024 واستهداف معدل نمو إسمي في عرض النقود بنسبة 46.9% ونمو في القاعدة النقدية بنسبة 48.8% بنهاية العام.). ولعل أولى الخطوات التنفيذية بدأت بالأمس حين أصدر البنك المركزي قراراً بإصدار نسخة ثانية من فئة الألف جنيه وهو القرار الذي ستعقبه قرارات أخرى نتركها لحينها. سياسة ضبط السيولة ستؤدي إلى لجم التضخم الذي وصل إلى ثلاثة أرقام حالياً يستهدف البنك المركزي تخفيضه إلى خانتين عبر تخفيض حجم السيولة في الأسواق. المهم هو متابعة وإنفاذ هذه السياسات بدقة للتناغم مع أهداف الميزانية المعلنة.
وارجو أن أسجل إشادة بالسيد وزير المالية جبريل إبراهيم الذي يعمل المستحيل في ظروف صعبة وكثير من الأقلام تنتاشه دون أن يعلموا أنه يعمل في اقتصاد حرب بلا موارد، وهي تجربة غير مسبوقة أن تفقد الدولة 80% من مواردها بين يوم وليلة.

9
أخيراً على الذين يكبّرون ويهتفون الآن للذين يحملون الكلاشات عليهم أن يفعلوا ذلك أيضاً للقابعين خلف الشاشات ويديرون عملاً معقداً ويحافظون على ثروات السودان وعلى تماسك النظام المالي للدولة والعاملون والإدارت في بنك السودان والقطاع المالي يستحقون كل الشكر ولهم ترفع القبعات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى