تقارير

عمرو منير دهب يكتب: فروق مخيفة

nasdahab@gmail.com

كان صديقي ممدوح يصرّ على أن علماء النفس المعنيين بالموضوع – وأناساً آخرين من عامة الناس غير معنيين بأي موضوع – يبالغون في تقدير أهمية الفروق الفردية، فاقتحام أي مجال لدى ممدوح لم يكن يتطلّب منه سوى أن يعقد العزم عِشاءً ليستيقظ صباح اليوم التالي ويشرع في إنفاذ ما عقد عليه العزم، ومع شخصية بذلك الحجم من البسالة في تبني الأفكار والمشاريع الجديدة لم يكن مستغرباً البتة أن نطالع رأياً حادّاً في التقليل من قيمة الفروق الفردية بين الناس، فإقرار رجل مثل ممدوح بتمايز الناس بالفطرة في الميول والقدرات يعني أن عليه الإقلاع عن كثير من الأفكار التي تراوده والمشاريع التي يبادر إلى تنفيذها بين عشية وضحاها، وهو ما لا يستطيع صاحبي تخيُّله حتى مع الفاشل (وما أكثره) من تلك الأفكار والمشاريع.

الفروق الفردية حقيقة علمية وعملية يثبتها الواقع باستمرار مهما تكاثر أنصار ممدوح من منكري تلك الحقيقة لدافع أو آخر، واختلاف الدوافع في هذا الباب من إنكار الحقائق العلمية والعملية يمكن الوقوف على بعض صوره بمقارنة ممدوح بأستاذنا الفاتح الذي كان يغلظ على “طِيش” الفصل والمرشحين لذلك المنصب لأنه يرى أن ذكاء أوائل الفصول يجب أن لا يكون حجة لتقاعس أواخرهم، على اعتبار أن كل ما على “طيش” الفصل وأقرانه فعله هو مضاعفة عدد ساعات الاستذكار اليومي للحاق بركب “العشرة الأوائل”، والذي فات أستاذنا الجليل الفاتح مع هذا المنطق أنه إذا جاز لذلك الصنيع بالفعل أن يرفع الطيش وأقرانه إلى مرتبة “العشرة الأوائل” فإن أولئك العشرة لن يفوتهم أن يضاعفوا بدورهم عدد ساعات استذكارهم ليُبقوا على الفارق بينهم وبين زملائهم الأقل حظاً من الذكاء على ما كان عليه، وإن كان الجدير بالانتباه أن مضاعفة عدد الساعات ليست حلّاً مثالياً لمشكلة “طيش” أي فصل لأن مشكلة “الطيش” في العادة ليست مع قلّة ذكائه قدرَ ما هي مع قلّة صبره على المذاكرة.

وكان صديقٌ مشاكس أيام الجامعة يصدر فتاواه لنفسه على اعتبار أن علماء الدين من الفقهاء لا يملكون مـُخــَّـيـن مقابل المخ الواحد الذي يحظى به كل مسلم، وبذلك فإن معضلة فقهية لم تكن تقف في وجه ذلك الصديق كما كان يرى باطمئنان، والحق فإن الرجل كان صادقاً تماماً فيما يقول ولكن ليس بسبب مخــّه الذي يمطر حلولاً بديعة للمسائل الفقهية المستغلقة وإنما لأنه لم يكن يهتـمّ بتحرّي الحلال والحرام سوى في مغالطات بيزنطية من ذلك القبيل. وما فات صديقنا المشاكس هذا (أو ما أحب هو أن يفوّته على نفسه) أن موضع السر في المسائل العلمية – وليست الفقهية فحسب – منوط بالقدرات العقلية للمخ الواحد وليس بعدد المخاخ في رأس الواحد.

وإذا شئنا أن نمثـــِّـل تفاوت القدرات العقلية بين الناس مجازاً بعدد المخاخ في رؤوسهم فإن البعض لن يمتلك مخــّـيـن فحسب كما كان يتهكّم صديقنا المشاكس بل عشرات ومئات وألوف وربما كذا مليون مخ قياساً بالإنسان العادي، فالفتح العلمي العظيم الذي يحققه عالم متفرّد بعد كدّ سنوات طويلة من البحث العلمي المضني قد لا يكون بوسع إنسان عادي – أو حتى متميّز – الوصول إليه البتة مهما أنفق من الوقت والجهد، وعليه فإن الفارق بين مخ وآخر – تأسيساً على ما يمكن إدراكه من إنجازات – قد يصل في حساب المضاعفات إلى اللانهاية.

الكتابة ليست بدعاً في مسألة الفروق الفردية، وإذا كان لكل كاتب مخ واحد – كما هو معلوم من علم تشريح الأعضاء بالضرورة – فإن ما يختلف لدى الكُتــّـاب ليس قدراتهم العقلية فحسب وإنما قدراتهم النفسية كذلك بحيث يدخل حساب المشاعر في تقييم التمايز هذه المرّة، وربما كانت هذه الحالة في تقدير مقامات الكتــّــاب أخص مع الشعراء تحديداً.

الحديث عن النكهة الخاصة في المنجـَـز الفكري كتابةً يتيح للكتـــّــاب فضلاً ليس متاحاً لغيرهم من المبدعين المعنيين بالمنجزات العلمية التي تهتم بالنتيجة الأخيرة للمنجز وليس السبيل الذي سُلك وصولاً إليه، وهكذا فإن كاتباً ذا قدرات عقلية أقلّ بإمكانه أن يتخذ من النكهة الفريدة لكتاباته سبباً مشروعاً للبقاء مزهوّاً في مجال العمل فلا ينغص عليه زهوَه كاتبٌ صاحب مقام رفيع وملكات عقلية جبارة لا مراء فيها.

غير أنه نكهة ما مهما بلغت من الفرادة لن تمنع ذا بصيرة بالكتابة من التمييز بين الكـتــّـاب على أساس قدراتهم العقلية، وأول من يدرك التفاوت في القدرات العقلية بين أصحاب المهنة الواحدة هم أصحاب المهنة أنفسهم، وعليه فإن الكاتب هو أول من يعرف قدر نفسه أمام غيره من الكـتــّـاب فيعتليه الغرور – مهما تلطّف في إخفائه – إزاء من هو أدنى ملكة منه، ويتملّكه الخوف (قبل الغيرة) مهما جاهد في إنكاره عندما يقرأ لمن يبزه موهبة، خاصة إذا ما قــُذف به إلى مقام مقارنة مع الأخير، فالحال عندها أشبه بملاكم متواضع العضلات يجد نفسه في مواجهة بطل العالم للوزن الثقيل، فالمطارحة الفكرية على صفحة بيضاء ليست أقلّ بأساً ولا إثارة من مجالدة على حلبة تحيط بها الحبال من كل جانب ويتربّص من ورائها جمهور يترقب في شغف من يخرّ صريعاً بين لحظة وأخرى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى