أيام الحرب وزمن عبد الله الطيب الثقافي

محمد الشيخ حسين

إذا لم يتكلم العلامة الراحل عبد الله الطيب الآن فمن يتكلم إذن؟

العلامة بالنسبة لجيلي وأجيال سابقة وأخرى لاحقة سيظل البوصلة التي نهتدي بها حين يملأ حياتنا الضباب وتكثر الجهالات وتختلط الاتجاهات وتغيب الحقائق ثم تقلب أيام الحرب حياتنا رأسا على عقب.

آن الأوان لكي نسترشد بكتابات العلامة بأفكاره ورؤاه وتحليلاته، عن وطن أريد له أن ينسى تاريخه ليفقد حاضره ويضيع مستقبله. وأريد له أن يغفل عن جغرافيته ليضل الطريق ويخطئ المسير وينأى عن القصد.

أما الحنين إلى زمن عبد الله الطيب الثقافي، بعد زهاء عشرين عاما مضت على رحيله، أمر الزمن ومحا الملامح، أم أن الحنين إلى زمن عبد الله الطيب الثقافي يسكن بين الضلوع، ويطل من فسحات العيون بحثا عن الثقافة السودانية الجامعة. وهي بالطبع ثقافة راسخة ولن يفت من عضدها عمليات القتل والنهب والدمار التي تشنها مليشيات الدعم وعصاباتها من المرتزقة وخائني الوطن ومن لف لفهم.

انسياب الحنين

قد ينساب هذا الحنين في الخاطر مثل أنين ساقية في ليلة هانئة تسقي الحرث والنسل، أو زقزقة عصافير منتشية في طمأنينة الفضاءات المتجدّدة التي رافقت المسيرة، وسجّلت في الذاكرة ملامح المعاني والأبعاد لسفينة الإبداع والعطاء التي قادها العلامة الراحل.

غير أن زمن عبد الله الطيب الثقافي يستمد مشروعيته من رؤية العلامة الثاقبة أن (المجتمع السوداني البسيط أعلم منا)، وأن (على المتعلم أن يشارك بما لديه من معرفة في نهضة هذا المجتمع بقدر الاستطاعة)، وأنه إذا أردنا أن (نجود معرفتنا أخرجناها للنقاش مع بقية الناس، وأن المثقف المترفع على وسائل الاتصال المتاحة، كاللوحة الجميلة عليك أن تصلها لترى جمالها).

ولا يخضع زمن الثقافة السودانية بنظر العلامة الراحل لمقاييس التوقيت الطبيعي والسياسي والاجتماعي، بل له مقاييسه الخاصة، إذ هو زمن ثقافة مازال يتحرك أبطالها التاريخيون أمامنا على خشبة مسرحها، ويشدونا إليهم برباط وجداني وثيق، والشواهد عند العلامة الراحل على ذلك كثيرة جدا في محاضراته وكتبه: (من نافذة القطار)، (حقيبة الذكريات)، (في ذكرى صديقين)، و(العادات المتغيرة في السودان النهري النيلي).

الصدام الحضاري

دون الخوض في تفصيلات لا يتسع المجال لها، يقدم لنا العلامة الراحل مثلا من تاريخ موغل في القدم يتمثل في الصدام الذي كان بين مروي القديمة وبين قمبيز ملك الفرس.

مثلنا ينظر العلامة لكنه يرى ما لا نراه، فالأصل في الثقافة السودانية، هو الصدام الحضاري بين هذا الاقليم وأقاليم أخرى. ولم يشأ العلامة الراحل أن يخوض في تفصيلات لا يتسع المجال لها، لكنه يذكر الصدام الذي كان بين مروي القديمة وبين قمبيز ملك الفرس. وقد حاول قمبيز أن يدخل هذه البلاد. ثم لما استعر الأمر ورأى أنه يكلفه حربا طويلة في بلاد قليلة المياه، ولا يعرف أخاديدها وطرقاتها ترك الأمر واكتفى بفتح مصر.

من أهم حركات الصدام الحضاري في هذه البلاد، حركة الروم، فالروم أقوى الأمم القديمة على الإطلاق. أقواها عسكريا، واقواها في التنظيم، واقواها في السياسة، وأقواها في ضروب العمل، لأنهم كانوا هم الذين صنعوا الطرقات، وبعض طرقاتهم موجودة إلى اليوم وتسير عليها المركبات. هؤلاء الروم غزوا الأرض حولهم ولم يستطع أن يردهم إلا الفرس، وإلا أهل هذه البلاد. وذكر أنهم هربوا من قمبيز وهذا غير صحيح. لأن حرب قمبيز مع بلادنا كانت 525 قبل الميلاد أو في تلك الحدود. وهذا قبل ذلك الموعد بمائة عام. والراجح عند العلامة أن هذا جاء نتيجة لانهزام الأسرة الخامسة والعشرين، وهي أسرة كوشية حاكمة، أمام ملوك أشور في منطقة فلسطين وسوريا. وأدت الهزيمة إلى التراجع، فبعض المتراجعين تراجعوا إلى غرب أفريقيا. ويقال لهم قبيلة كسرى، أو كاسرى. وهذا الذي أوهم بعض الناس أنها جاءت بعد حرب قمبيز، وهم فرس، وملك الفرس يسمى كسرى كما لا يخفى عليكم.

أصول الثقافة

على أن الأهم في زمن عبد الله الطيب الثقافي محاضرة قيمة بعنوان (أصول الثقافة السودانية) قدمت ضمن فعاليات مؤتمر الاستراتيجية القومية الشاملة الذي عقد بالخرطوم في عام 1991.

وفي هذه المحاضرة تجلت ريادة العلامة الراحل في تخليق العقلية السودانية، إذ كان حتى مرضه ووفاته لم يمل من بث شكوى فحواها (إن الأخذ بمظاهر الحضارة دون الغوص في جوهرها تكون مضاره أكثر من فوائده). وضرب مثلا بأن ( فرش إحدى الخلاوي بالموكيت قد أدى إلى حرمان الطلبة من سبورتهم الطبيعية وهي الرمل، حيث يتعلم الحيران الكتابة وتصويب أخطائهم في نفس الوقت).

يهتم زمن عبد الله الطيب الثقافي إجمالا بأصول الثقافة السودانية من جهة أنها موضوع شاسع الأطراف. ولا يسع المجال هنا للتعريف، لأن (الثقافة) تحتاج إلى تعريف، و(السودانية) تحتاج إلى تعريف، و(أصول الثقافة) أيضا تحتاج إلى تعريف. لكن يمكن القول إن لطائف الحياة السياسية أدخلت عبارة (المشروع الحضاري) في حياتنا منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي. وأيا كانت النظرة إليها فالأصل في الثقافة السودانية عند العلامة الراحل، هو (الصدام الحضاري) بين هذا الإقليم وأقاليم أخرى.

التصنيع الحربي

هناك جانب آخر ارتبط بحياة الناس في ذلك الزمان وأتقنوه، وهو جانب التصنيع الحربي، بنجاحهم في صناعة عدة أنواع من الأسلحة، استخدموا أنواعا منها في حفلات الأعراس والختان. والسلاح الذي يذكر هنا هو القوس (النشاب). وليس صحيحاً ما يتردد من أن النشاب غير معروف في أرض النيل. ويستدل العلامة الراحل بخبر المك نمر لما خرج من شندي في طريقه إلى الحبشة قالوا تهيب جدا من لقاء قبيلة التكارين في ناحية القضارف، لأنهم كانوا أهل نشاب. ويبين هذا الخبر أيضا أن أهل شرق البحر الأحمر أهل سيوف وحجارة، ولا يعرفون النشاب. كذلك أهل دنقلا، أهل زراعة وأهل سيوف وحراب ولا يعرفون النشاب. ولكن الأخبار التي في التاريخ أن سلاح النشاب كان من أهم الأسلحة التي دافع بها قدماء أهل هذه البلاد عن أنفسهم.

من الأسلحة الهامة التي عرفت في العهد النيلي القديم الخيل. والقول الرائج أن الخيل جاء بها الهكسوس إلى مصر ووجدت طريقها إلى هذه البلاد. ولكن هذا القول غير محقق والمحقق أن ملوك هذه البلاد في القرن السابع الميلادي أو الثامن الميلادي كان يهتمون بالخيل وإطعامها ويعتنون بها غاية العناية.

وكان ملوك بابل وأشور يهتمون بالخيل التي جلبت إليهم من بلاد كوش، وأنها من أجود الخيل، ويحتفلون بها ويخرجون بها في الزينة وما أشبه ذلك.

ولا ينتهي الكلام عند العلامة الراحل دون أن يتطرق للأصول المهمة التي صممتها حضارتنا القديمة وصارت من الفروع الأصلية للحضارات الأوروبية الحديثة، ولاسيما من طريق قيم من طرق الحياة الاجتماعية والمدنية.

واستنادا على هذا التاريخ الناصع ليس مستغربا أن تستهدف الولايات المتحدة الأمريكية في زماننا هذا منظومة الصناعات الدفاعية في السودان بفرض عقوبات على صاحب الشخصية الوسيمة الفريق أول ميرغني إدريس سليمان، والحديث عن نشأة هيئة التصنيع الحربي في القصة تستحق أن تروى عبر مراحل تطورها واقتحامها لمجالات جديدة في الصناعات الحربية والمدنية. وقد أحسن الإعلامي المقتدر الطاهر حسن التوم حين سجل مع المهندس عماد حسين حلقة تلفزيونية نادرة حكى فيها نشأة المؤسسة وفتوحاتها الكثر. والحلقة متاحة في الفيسبوك للراغبين في التفاصيل.

كيف نرى المشهد الوطني الآن؟

النظرية الرائجة أن السودان الآن أمام لحظة حقيقية تجمعت فيها مشاكل وقضايا وعقد كثيرة داخلية وخارجية متشابكة مع بعضها، وبعضها سابق وبعضها لاحق وبعضها مستحق. وقد أصبح المتراكم منها كتلة حرجة ليست منافذ سهلة أو قريبة المنال. لكن العلامة الراحل عبد الله الطيب يقطع هذا الجواب المتشائم، بحديث عن الصدمة الثالثة الحضارية التي كانت عميقة الأثر في هذه البلاد إلى يومنا هذا.

كان الاتصال بالاسلام هو الصدمة الحضارية الثالثة، ولا يتفق العلامة مع الذي راج في كتب التاريخ أن الإسلام جاءنا في القرن السابع الهجري على وجه التحديد في سنة 630. وبعد ذلك يتحدث الناس عن الرجال الأكابر الخيرة الذين جاؤوا بالشريعة وبعلوم التصوف وبعلوم الدين المختلفة مثل أولاد جابر وغلام الله الركابي ومثل تاج الدين البهاري ومثل الذين جاؤوا من جهة اليمن ومن مصر في الأيام الاخيرة وهلمجرا، وهذا باب واسع. لكن الذي عند العلامة أن الإسلام دخل في بلادنا قبل أن يدخل في المدينة المنورة. وذلك أن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خبرنا بوضوح أنهم خرجوا من الشعيبة إلى الشاطيء المقابل. والشعيبة نحو 40 كيلو مترا جنوبي جدة أي الناظر في الأمر جغرافيا يجد أنها تقع شمال سواكن. فأن يبحر الصحابة من هناك ليخرجوا في باب المندب بعيد. هذا خبر المجيء. بل خبرونا أنهم في المجيء دفعوا نصف دينار أجرة للمركب. وفي الرجوع عند العلامة خبر مزدوج وهو أن أبو موسى الأشعري مع الأشعريين خافوا من قريش فعمدوا إلى أن يركبوا البحر ليتفادوا قريش. وفي محاولاتهم هذه عصفت بهم الرياح فألقتهم في الشاطيء الآخر. عند الشاطيء الآخر لقوا جعفر بن أبي طالب رضى الله عنه مع أصحابه آيبين من هجرة الحبشة ليلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم.

العروبة والأفريقية

عندما يصل زمن عبد الله الطيب الثقافي إلى مسألة عروبة السودان وإفريقيته، يعيد إلى أذهاننا أن المرحوم الرجل النابغة محمد أحمد محجوب رحمة الله عليه، كان يقول نظر شمالا إلى العرب ونظر جنوبا إلى إفريقيا في بعض حديثه. والسودانيون دائما عندهم عقدة، عقدة أهم إفريقيون أم هم عرب؟

Exit mobile version