هاشم الإمام محي الدين
بعد ما يقارب الستين عاماً خرج البريطانيون من السودان سلماً ، لم يسفكوا دمأً ، ولم يهدموا بيتاً، وخلفهم على حكم السودان في العامين الأولين رئيسان كلاهما من غرب السودان : اسماعيل الأزهري من ( الأبيض ) وعبد الله خليل من ( أم كدادة ) وهذه بداية ما يسميه هؤلاء القوم ( دولة 56 ) التي ينسبون إليها و إلى الجلابة الذين حكموها كل جريرة أو مصيبة ألمت بهم، ولو كانت كارثة طبيعية ، وبدأت هذه الدولة المفترى عليها بسودنة الوظائف التي ثار حولها لغط كثير، واتهام للجنتها با نحيازها إلى الشماليين افتراء وكذبا ، فقد ذكر الدكتور مضوي الترابي المحلل السياسي وعضو اللجنة المركزية للحزب الاتحادي الديمقراطي في لقاء تلفزيوني أنه سأل رئيس لجنة السودنة عن هذا الانحياز المزعوم فقال له : لم تكن اللجنة لجنة سياسية بل كانت لجنة مهنية أدت عملها بحرفية تامة فكلما أردنا سودنة وظيفة ما أعلنا عنها ، ثم اخترنا الشخص المناسب لها حسب مؤهلاته ، فاستأثر الشماليون بأغلب الوظائف لأنهم أكثر تعليماً ليس غير ، لم يكن آنذاك اعتبار للأقليات فيفسح لهم الطريق لنيل بعض الوظائف ولو كانوا أقل مؤهلات ، فهذه اعتبارات جديدة ابتدعها الأمريكان مؤخراً لإرضاء السود كفارة عما اقترفوه في حقهم من جرائم ، ولرفع كفاءاتهم المهنية ، وهو سلوك حضاري كانوا فيه من السابقين لا ريب ، ولكنه لم يكن شائعاً معروفاً آنذاك فيُقتدى به.
وفشو التعليم وسط الشمليين سببه أنهم ينشئون المدارس بالعون الذاتي خلافاً لسكان الأقاليم الأخرى فإنهم ينتظرون أن تجود عليهم الحكومة بذلك ، وخدمات الحكومة بطيئة تحكمها الظروف الاجتماعية والاقتصادية ، وأهل دارفور شغلهم النزاع القبلي وحياة البداوة عن التعليم .
وسلم عبد الله خليل جنرالات 58 السلطة فيئاً لم يوجفوا عليها من خيل لا ركاب، ، ولم يكن في خاطرعبد الله خليل أي اعتبار لعرقية أو جهوية كما هو عند بعض مثقفي أبناء دارفور اليوم ، فقد سلمها تنفيذاً لقرار حزبه ( حزب الأمة ) لأعلى رتبة في الجيش بغض النظر عن قبيلته أو منطقته الجغرافية التي ينتمي إليها .
وما تسميه الأحزاب السودانية انقلابات عسكرية ليست هي قي نظر الحاذقين والمحققين من علماء السياسة كذلك ، واتهام المؤسسة العسكرية بتدبيرها ضرب من الاتهام بالباطل ، فعبود لم يقم بانقلاب عام 58 بل سلمه الحزب الحاكم السلطة طوعاً لا كرهاً .
وكذلك الشأن في حكم النميري وحكم الإنقاذ ، لم يقم الجيش بانقلاب عسكري وإنما قامت به كوادر الأحزاب العقائدية في الجيش ، فالكوادرالعسكرية للحزب الشيوعي والقوميين العرب والناصريين وغيرهم من قبائل اليسار هم الذين نفذوا انقلاب النميري لا المؤسسة العسكرية . و أما حكم الإنقاذ فجاءت بة كوادر الجبهة الإسلامية القومية في الجيش لا المؤسسة العسكرية . أحزاب الأمة والأحزاب اليسارية والجبهة الإسلامية هم المسؤلون عن قيام الانظمة العسكرية في السودان ، فإن كان ما فعلوه له مبررات ومسوغات عندهم فليستعدوا لسؤالات التاريخ الحرجة !
وهذه الحقب العسكرية الثلاث من تاريخ دولة 56 لا ينبغي أن يقال عن حكامها إنهم جلابة ، فالفريق إبراهيم عبود لم يخرج بعسكره للاستيلاء على السلطة ، ولكن جاءته طوعاً تجرجر أذيالها نتيجة المكايدات السياسية بين السيدين : علي الميرغني وعبد الرحمن المهدي ، راعيي أكبر حزبين سياسيين في البلاد ، الحزب الاتحادي وحزب الأمة .
أما الرئيس النميري ( 1969 – 1985 م) والرئيس البشير ( 1989 – 2019 م) فساقتهم الأيدلوجية إلى الحكم ، جاء الأول على أكتاف اليساريين ، وجاء الآخر على أكتاف الإسلاميين ( الجبهة الإسلامية القومية ) ، والأيدلوجية ليس لها موقع جغرافي خاص بمعتنقيها لا يوجدون إلا فيه ، ولا عرق ينتمي إليه أصحابها بل تجد هم ينحدرون من قبائل وسلالات مختلفة ، ويساكنون الناس في الأقاليم الجغرافية كافة .
وبهذا الفهم لتاريخ الحكم في السودان خرجت هذه الحقب الثلاث ( 52 سنة ) مما يسمى حكم الجلابة أولاد البحر ، وبقيت بضع سنوات هن ما يسمى ( فترة الدمقراطية ) التي حاء حكامها على أكتاف أصوات أبناء دارفور في الانتخابات ! أبعد ذلك يقال إن الجلابة حكموا دولة 56 وأذاقوا أهل دافور الأمرين !؟ فحكام دولة 56 إما ساقتهم الأيدلوجية إليه وإما خرجوا من عباءة أحزاب وأكبرها حزب الأمة ، حزب أهل دارفور ، فليس للجلابة فيه ناقة ولا جمل .
والذي حارت البرية فيه هذه العداوة التي يكنها الدعم السريع لنظام الإنقاذ والحركة الإسلامية فهما اللذان صنعاه ومهدا له الطريق ليكون جزءاً من الجيش السوداني .
ومن عجب أن الدعم السريع يصف أهل الإنقاذ والحركة الإسلامية بأنهم ( فلول ) ويتوعدهم بأن يقطع دابرهم ويستأصل شأفتهم ، ولا يذر منهم أحدا . وآخرون من تنظيمات اليسارممن يشكلون حاضنة للدعم السريع ، ويديرون له آلته الإعلامية الضخمة يتهمون الإسلاميين بأنهم أنشأوا الدعم السريع وسلحوه وأوقدوا نار الحرب حتى يعودوا إلى السلطة ، وأعجب من ذلك أن بعض صحفيي حزب الأمة الأغرار يتشدقون بهذه المقولة فإذا قلت إن الصادق المهدي سلّح القبائل العربية في دارفور، سلقوك بألسنة حداد ، فالخطاب السياسي السوداني خطاب متناقض مضطر ب أو كذلك أُريد له أن يكون والله المستعان . .
إنّ أكثر إقليم من أقاليم السودان استفاد من حكم الإنقاذ هو إقليم دارفور ، ولا ينكر ذلك إلا جاحد ، فبالنظام الفدرالي الذي طبقته الإ نقاذ أصبح لكل ولاية حكومة ، وزرؤها وواليها منها ، ولتقصير الظل الإداري قُسم إقليم دارفور إلى عدة ولايات ، وعلى مستوى البني التحتية شهدت البلاد عامة ودارفور خاصة إنجازات ضخمة في مجالات الاقتصاد والصناعة والطاقة والنفط والكهرباء والاتصالات و الطرق والجسور والتعليم العام والعالي والصحة وغير ذلك مما لا يُحصى عدّاً . ففي دارفور شهدت مطارات الفاشر ونيالا والجنينة توسعات وتحسينات في البني التحتية فأنشئت المدارج والصالات الجديدة تلبية لاحتياجات المسافرين والبعثات الأممية ، هذا علاوة على مطارات صغيرة أنشئت في الضعين وزالنجي وطرق إلى الفاشر نيالا زالنجي الجنينة وجسور على الأودية والطرق القومية .أما قطاع الكهرباء في دارفور فالإنجازات فيه ولا سيما في مجال محطات توليد الكهرباء والطاقة الشمسية في المدن الكبيرة فشهادة على عناية الإنقاذ بدارفور ، كذلك أنشأت الإنقاذ في دارفور المشافي ذوات العدد والمراكز الصحية ومراكز التأمين الصحي كما أنشأت جامعتي زالنجي ونيالا .
وأكثر ما يأخذه أهل دارفور على حكومة الإنقاذ الحرب التي بدأت في دارفور عام 2003 م وزُهقت فيها كثير من الأنفس ، وشُردت فيها كثير من العوائل فأصبحوا عالة على المنظمات الأممية يتكففون القوت والدواء ، والحرب ما قد علمتم وذقتم وما القول فيها بالحديث المرجّم ، فمهما بررتها الدولة فلا مبرر لها فمسؤولية الدولة حماية المواطن ، فلا يعقل أن تكون الدولة هي المعتدية عليه ، وإن تذرعت بخروجه عليها وقطعه الطريق.
آمل أن تدعو الدولة أصحاب النزاعات إلى كلمة سواء بينها وبينهم بعد أن تبين لها من الخونة ومن أصحاب الصراط السويّ .
ولعل أكبر إنجازات الإنقاذ أنها أشركت المتعلمين أبناء الطبقات الفقيرة والمتوسطة في الحكم على المستويين الفدرالي والمركزي بعد أن كان الحكم هبة السيدين .
وفي الختام أود أن أحيي حركتي تحرير السودان والعدل والمساواة على موقفهما الوطني إذ تساميا فوق الجراحات وقدما مصلحة الوطن على كل اعتبار.