وسائط التواصل الاجتماعي في السودان: سلاح التعبئة وآلة الاستقطاب

د. إسماعيل ساتي

مقدمة:

شكّلت منصات التواصل الاجتماعي منذ اندلاع الاحتجاجات في السودان في ديسمبر 2018 وقبلها، منصة محورية في المشهد السوداني، حيث تجاوزت دورها كقنوات اتصال تقليدية إلى فضاءات حيوية للتعبئة السياسية وتشكيل الرأي العام.

وإذ أؤكد أنني لست حيادياً تجاه الحرب المدمرة التي تعصف بوطننا، فإنني أتناول في هذا المقال – من منظور تحليلي علمي – الكيفية التي ساهمت بها هذه المنصات في تعميق الانقسامات في مجتمعاتنا المحلية والإقليمية، متخذاً من السياق السوداني نموذجاً للدراسة.

من تجاوز الاستقطاب إلى تعميقه: التحول الجذري لدور المنصات في السودان

لم تكن ظاهرة تحول العمل المحدود إلى حركة جمعية واسعة وليدة خواتيم 2018، بل تعود جذورها إلى العام 2013 مع الانتشار التدريجي لوسائط التواصل في السودان، مثل فيسبوك وواتساب. في هذه المرحلة التمهيدية، بدأت الجهود المتفرقة محلياً وإقليميا تتحول بشكل منهجي إلى أعمال منظمة، مهّدت الطريق لموجة التعبئة الشعبية الواسعة التي سبقت سقوط نظام الإنقاذ.

ذروة التوحد: (2019-2018)

بلغت ديناميكية التعبئة عبر المنصات ذروتها في هذه الفترة، حيث تحولت منصات مثل فيسبوك وتويتر (لاحقاُ إكس) إلى فضاء موحد للمطالبة بالتغيير. هاشتاقات مثل #مليونية_ديسمبر و #تسقط_بس حشدت جماهيراً عابرة للانتماءات الإيدلوجية، في ظل وجود “عدو مشترك” واضح. وقد عملت الخوارزميات على تعزيز هذا التيار، مما خلق زخماً جماعياً غير مسبوق.

مرحلة الانقسام (ما بعد 2019):

مع اختفاء العدو المشترك بسقوط النظام، تحولت وسائط التواصل من أدوات توحيد إلى أدوات تفتيت. حيث برزت الخلافات بين دعاة التغيير الجذري وظهرت الخلافات حول هوية الدولة وشرعية الحكم، لتعيد الخوارزميات تشكيل نفسها وتعزيز الانتماءات الضيقة والخطابات المتطرفة على حساب المصلحة الوطنية الجامعة.

آليات تعزيز الاستقطاب الرقمي: التصفية الخوارزمية وتشكيل “غرف الصدى” و”التشظي الافتراضي”

• التصفية الخوارزمية:(Algorithmic Filtering)

هي الآلية الأساسية التي تدفع بعجلة الاستقطاب، حيث تقوم الخوارزميات تلقائياً بفرز وترتيب المحتوى المعروض على المستخدم بناءً على بياناته السابقة وسلوكه الرقمي. فعن طريق تتبع عمليات البحث والإعجابات ووقت الاستخدام، تخلق هذه الخوارزميات فقاعة رقمية شخصية تهدف إلى تخصيص تجربة المستخدم وجعلها أكثر جاذبية. ورغم فائدتها في توفير الوقت، إلا أنها تتحول إلى أداة خطيرة عندما تحجب المعلومات المخالفة لرأي المستخدم، مما يضع الأساس لعزلة فكرية منهجية.

• غرف الصدى: (Echo Chambers)

تمثل غرف الصدى المرحلة الثانية من عملية الاستقطاب الرقمي، حيث تتحول الفقاعة الرقمية إلى بيئة افتراضية مغلقة لا يتعرض فيها الشخص إلا للأفكار الموافقة لمعتقداته. فتقوم الخوارزميات بتحصين هذه الغرف عبر تعزيز المحتوى المتوافق مع توجهات المستخدم، مما يؤدي إلى:

­ تضخيم القناعات الحالية واعتبارها “الحقيقة المطلقة”،­ تعميق الاستقطاب واتساع الفجوة بين الآراء المتباينة،

­ عزلة فكرية تصل إلى حد اعتبار الرأي المخالف شريراً أو خاطئاً.

• التشظي الافتراضي: (Digital Fragmentation)

هي الذروة الطبيعية لهذه العملية، حيث تتحول غرف الصدى المنعزلة إلى جزر افتراضية منفصمة، وحيث يتفاعل أفراد كل مجموعة أساساً مع من يشبهونهم داخل فقاعتهم الخاصة، مع قلة التفاعل أو الفهم بين المجموعات التي تختلف معهم في قناعاتهم. فينقسم المجتمع إلى كيانات مغلقة تفتقر إلى الأرضية المشتركة. هذا الواقع الافتراضي يضعف الحوار المشترك ويعمق الاستقطاب. فتكون نتيجته وجود مجتمع غير متماسك يعيش فيه الناس في “عوالم واقعية” متوازية. وهو ما حدث في السودان خلال الفترة (2018-2019) عندما انقسمت الساحة إلى مؤيدين للحراك الثوري ومعارضين له. ثم تفاقم هذا الانقسام بعد الحرب في أبريل 2023، حيث تحولت هذه الجزر الافتراضية إلى معسكرات متصارعة، مثل:

­ مدنية مقابل عسكرية

­ إسلامية مقابل علمانية

­ مؤيدون للجيش حتى القضاء على مليشيا الدعم السريع وتخليص الوطن من شرورهم مقابل معارضون للحرب باعتبارها كارثية

النتيجة: صعوبة في وجود حوار مشترك أو حقائق موحدة، تؤدي إلى استقطاب وعدم تفاهم بين أطياف المجتمع، مما يخلق واقعاً متعدداً تختفي فيه الحقائق الموحدة ويسود فيه الاستقطاب.

هذا ما جرى خلال الحراك الثوري (1018-2019) حيث التزمت المجموعات المتصارعة غرف صدى منعزلة، غرف للمؤيدين للحراك يرون فيها تجسيداً للعمل الثوري، وأخرى للمعارضين للحراك يرون فيها تهديداً للأمن الوطني. وبعد اندلاع الحرب في أبريل 2023، انقسمت الساحة بفعل غرف الصدى والتشظي الافتراضي إلى مساندين للدعم السريع للتخلص من أعدائهم التاريخيين من ناحية وبين من يرونه ميلشيا إرهابية خارجة على الدولة من ناحية أخرى، وكذلك انقسموا إلى من يرون في الجيش حامياً للوطن وبين من يرونه حاجزاً أمام الديمقراطية.

نتائج التصفية الخوارزمية وغرف الصدى والتشظي الافتراضي:

أدت آليات التصفية الخوارزمية وتشكيل غرف الصدى إلى تشظي المشهد السوداني، مما أنتج مجموعة من الظواهر الخطيرة التي غذت الاستقطاب وعمقت الانقسامات. وفيما يلي أبرز هذه المظاهر وتجلياتها:

• تضخيم الخطاب المتطرف: تفضيل الخوارزميات للمحتوى العاطفي والمثير، مما يزيد انتشاره ويعمق الاستقطاب.

• الخطاب الطائفي: تحويل المصطلحات مثل “إسلاميين” و”علمانيين” و “قحاتة” و “فلول” إلى شتائم، وتحويل النقاش من السياسات إلى صراع وجودي على الهوية.

• نظرية المؤامرة: انتشار اتهامات بالعمالة للأطراف الأخرى، مما يقضي على إمكانية الحوار العقلاني.

• الحرب المعلوماتية: نشر أخبار مزيفة أو كاذبة عن فساد شخصيات عامة لتشويه السمعة وتضليل الرأي العام وتبرير المواقف تجاهه.

• الحسابات الوهمية والمؤدلجة: استخدام شبكات من الحسابات المزيفة أو ما يسمى “الذباب الإلكتروني” لنشر رواية موحدة ومهاجمة الآراء المخالفة بشكل منظم، مما خلق انطباعاً زائفاً بتأييد جماهيري لموقف معين.

• ازدواجية تصوير المؤسسات: تحول النقاش من مؤسستين إلى صراع بين فضاءين متناقضين، فضاء يصور القوات المسلحة كحامية للوطن والشرعية، بينما تُصوَّر في الفضاء المعارض كقوة يهيمن عليها الإسلاميون لتعطيل الثورة. وبالمثل، ينقسم تصوير الدعم السريع بين فضاء يقدمه كحام للثورة وقوة عسكرية للقضاء على دولة 1956، وفضاء معارض يصوره كميلشيا متمردة انقلبت على مؤسسات الدولة واعتدت على العباد والبلاد.

• إحياء الصراع الأيديولوجي: تضخيم الصراع الإسلامي-العلماني وتحميل أطراف الصراع بإرثه التاريخ. حتى لو لم تكن هويته الأساسية.

وهكذا، لم تكن وسائط التواصل في السودان مجرد مرآة عاكسة للاستقطاب، بل فاعلاً رئيسياً في تعميقه وتوسيع هوّته. من خلال صناعة عوالم افتراضية منعزلة وتضخيم الخطاب المتطرف ونشر التضليل، أسهمت هذه المنصات في إيجاد واقعين متوازيين يعيشهما أبناء البلد الواحد. والأخطر من ذلك كله أن هذا المشروع الانقسامي يسير اليوم نحو تأسيس تشظي مجتمعي هيكلي، يقوم على استقطاب هوياتي قبلي وإثني قد يعيد تشكيل خريطة السودان لعقود قادمة.

إن فهم هذه الآليات يظل شرطاً أساساً لأي جهد مستقبلي لإعادة بناء النسيج الاجتماعي وخلق حوار وطني يتجاوز حدود الشاشات.

محاور الحلول الممكنة: من الفرد إلى المنصة إلى الدولة

في مواجهة التحديات سالفة الذكر، تبرز حلول عملية على مستويين أساسيين: مستوى مسؤولية منصات التواصل، ومستوى الإجراءات الوطنية والمؤسسية.

1. مسؤولية الفرد والمجتمع (المناعة الفكرية):

• التثقيف الإعلامي (Media Literacy): تنمية مهارات تمييز الأخبار الكاذبة والتحقق من المصادر وإدراك حبس الخوارزميات للمستخدم في “غرف الصدى”.

• الانضباط الذاتي: التحقق من المحتوى قبل نشره، وتجنب الانجرار وراء الخطاب العاطفي المستفز.

• التواصل الحقيقي: بناء قنوات اتصال مباشرة مع أصحاب الرؤى المخالفة، لتفكيك الصور النمطية وبناء جسور التفاهم.

2. مسؤولية منصات التواصل (المسؤولية الأخلاقية):

• شفافية الخوارزميات: تنظيم حملات شعبية تدعو مؤسسات تدير وسائط التواصل (مثل ميتا – فيسبوك وتويتر) للإفصاح عن آليات عمل الخوارزميات وكيفية تضخيمها للمحتوى المتطرف.

• التحقق من المحتوى: تكثيف جهود التحقق من الحقائق (Fact-Checking) بالشراكة مع جهات مستقلة، والحد من انتشار المعلومات المضللة بشكل أسرع.

• تعزيز المحتوى المعتدل: تعديل الخوارزميات لدعم المحتوى التحليلي الهادئ بدلاً من المحتوى المثير.

• تنظيم حوارات متعددة الوسائط: تنظيم منصات حوارية إعلامية (افتراضية وإذاعية وتلفزيونية وحضورية) مدارة بعناية بين الأطراف المتباينة فكرياً وأيدلوجياً، لتكون نموذجاً للحوار المحترم والهادئ الذي يسعى لتصحيح الصور النمطية عن الآخر.

3. مسؤولية الدولة والمؤسسات (الإطار التشريعي والوطني):

• الحوار الوطني المباشر: إنشاء منصات حوارية حقيقية تجمع الكيانات السياسية والاجتماعية المختلفة تحت هدف “إنقاذ السودان”.

• تشريعات رقابية ذكية: سن قوانين تحارب خطاب الكراهية مع الحفاظ على حرية التعبير.

• دعم وسائط الإعلام المستقلة: تعزيز وسائل الإعلام المهنية التي تقدم التحليل المتوازن والتحقيقات الاستقصائية كمصدر موثوق بديل عن (الصخب الرقمي).

التحدي الأكبر: الإرادة السياسية والإجماع الوطني

المشكلة أن العديد من الأطراف تستفيد من حالة الاستقطاب على الأرض وفي الفضاء الإلكتروني. فهو أداة فعالة للتعبئة والحشد. لذلك، فإن أي حل حقيقي يتطلب:

1. اعتراف جميع الأطراف بأنهم جزء من المشكلة وأن الاستمرار فيها سيؤدي إلى دمار الجميع.

2. التضحية بمكاسب التعبئة الضيقة لتحقيق مصلحة الوطن الواسعة.

3. وجود وسيط محايد وموثوق (داخلي أو دولي) يمكنه أن يسهّل عملية خفض درجة الحرارة.

ختاماً:

يبدأ الحل الحقيقي بإدراك جوهري: أن “الخصم” ليس شراً مطلقاً، وأن “الحقيقة” لا تحتكرها فئة واحدة. ورغم دور منصات التواصل كأداة مساعدة، يبقى جوهر الحل مرتبطاً بالإرادة الإنسانية لكسر دائرة الكراهية. فبناء الثقة المفقودة لا يتحقق بمنشورات على فيسبوك، بل بخطوات عملية على الأرض وحوار مباشر وتخلي حقيقي عن الخطاب الاستقطابي.

والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.

Exit mobile version