ورحل بابكر ( الحاج) الجنيد!

◦ الدكتور الخضر هارون
◦ قال ابو الطيب في رثاء أبي شجاع فاتك الأسدي:
◦ الحزن يقلق والتجمل يردع
◦ والدمع بينهما عصي يردع
وقد صدق الشاعر الفحل هنا والصدق ليس من صفات الشعر والشعراء فهم في غالب الحال في كل واد يهيمون ويقولون ما لا يفعلون وهكذا وسائط الإشهار والدعاية في كل حين ومن قديم. فالحزن لا يقلق وحسب بل يفتت الأكباد ويقتل في بعض الأحيان إذا جاء بغتة كالقذيفة الحارقة بلا مقدمات وهكذا بلغني رحيل الإنسان الجميل بابكر الجنيد إلي دار البقاء الأبدي فقد كررت الاتصال به أمس ١٧ ديسمبر ٢٠٢٥ شغوفا بالأنس الجميل الذي جعلته استراحة من أوجاع هذا الزمان والتي ألمت بالسودان من صنع العداء والأبناء .فلم أجد جوابا مع تواصل الرنين الذي خلته حزيناً لحزني بعد معرفة الفاجعة في الرجل .استفسرت الصحاب فتعجبوا كيف لا أعلم وقد انقضي نحو أسبوعين على مصيبة الموت فقد كنت علي سفر ولصداقتي للرجل ما دار بخلد أحد أني لا أعلم.
والبداية كانت في سبعينيات القرن المنصرم حيث تم لقاؤنا أولاً بذويه وعشيرته الكريمة في مسجد الشايقية في ديم الزبيرية حيث الإمام خليفة الخلفاء الحافظ الخليفة عبد الغني ذلك الشيخ الوقور الذي يلزمك سمته وتقواه باحترامه وهناك نفر كريم من أهله من قرية الغُريبة تخوم ديار البديرية الجنوبية في ضفة النيل الغربية لمركز مروي أو محليتها إن شئت .هناك عرفنا وجوها نيرة وقلوب نقية كأفئدة الطير : بابكر أبو جارة وعبد السلام الصادق وتوطدت بيننا صلات تجاوزت مقامات الدنيا الجوفاء وتراتبياتها المصطنعة ونفذت دون استئذان إلي سوح الإخاء الإنساني الذي يقتحم الحواجز والحيطان. قالوا لي اسمه في البلد بابكر الحاج. ضحك عندما سألته عن ذلك ومن أين جاءات الجنيد والجميد علم شامخ من أعلام التصوف وأهل السودان أهل تصوف وعشق وأهل الغُريبة ختمية بينهم وبين التصوف ألف سبب .قال :الجنيد قابع هناك موجود بالفعل في آخر السلسلة وصلني به متعجلا اصرار الفرنجة علي اللقب وقد كان أبي ميسور الحال بمقاييس زمانه تمكن من الحج إلي البيت الحرام فكان من قلة في المنطقة وفقوا لإداء الشعيرة العظيمة فأصبحت (الحاج) دالة عليهم محببة. وهكذا ذهبت الصفة باسم ابيه الحقيقي فكأن الفرنجة في نيويورك وأهله في الغريبة قد اتفقوا متآمرين علي تغييب اسمه الصريح .وكان أبوه من ساكني العاصمة لكنه أرسله للغريبة للخلوة هناك ثم مدرسة كورتي الأولية والتي زارها الحاكم البريطاني بعد أن جُدد بناؤها بعد الفيضان وكنت قد أفردت لذلك مقالة تجدونها في سودانايل بعنوان صفحة في تاريخ منطقة الدفار: شاهد علي زيارة الحاكم العام لافتتاح مبني مدرسة كورتي الأولية! .. بقلم: الدكتور الخضر هارون
والفيضان بينه وبين جواره من بني الإنسان علاقة مركبة ومرتبكة،فهو يزمجر فيعدو عليهم في قسوة تأتي علي مساكنهم وبساتينهم لكنهم مع عظم الجرم لا يفارقون شطانه المزدانة بالخضرة والعطاء الوفير والماء النمير بل كان يسترضونه بالحسناوات في زمان ضلالات مضت.
والغريب أن الفيضان المدمر لعام ١٩٨٨ هو الذي وثق علاقتي بالفقيد العزيز بابكر الحاج الجنيد فقد قدمت من السودان عبر نيويورك بعد أيام قليلة بعده والخرطوم غرقي ممسك بعضها من الذعر بعضا مثل أنس الوجود في وصف الرائع أحمد شوقي. فاستضافني بكل الترحاب في بيته في كوينز وطاف بي معالم تلك المدينة الساحرة :برجي التجارة التوأم والآخر امباير أستيت ومبني الأمم المتحدة والفلاحة المصرية المتحجبة المسمي بتمثال الحرية وهي في مدخل المدينة البحري ترحب بالمضطهدين في بلدانهم: هلموا إليّ من كل حدب وصوب ، مرحبا بكم !ولعلها تنتحب هذه الأيام وحكام البلاد يردونهم من حيث جاءوا مع اللعنات بشر السباب وقبيح النعوت !
ولم ينقطع بيننا الحديث مذ جاء لنيويورك قبل عقود عديدة محاسبا منتدبا من المالية للخارجية: قص عليً سير أماجد تقلدوا الوظائف الصغيرة والكبيرة في ربوعها في بعثة السودان الدائمة لدي الأمم المتحدة في قلب مانهاتن. لم تسع ذاكرته المتقدة وقلبه الكبير إلا مناقبهم كأنهم كانوا خلواً من كل عيب ، وتلك صفة كرام الناس : الوزير السفير عبدالرحمن عبدالله، أحمد سليمان ، الفاتح عروة ، عبد المحمود عبدالحليم ، عمر دهب وعوض محمد الحسن وطيف آخر من الفضلاء من الدبلوماسيين وقتها والإداريين وغيرهم لم يري فيهم المناصب والدرجات بل نفذ إلي قلوبهم وشمائلهم الإنسانية فبادلوه حبا بحب وتقديرا بمثله. كان قارئا نهما يتصل بي كلما قرأ ما استرعي انتباهه ويحيل لي الكثير من طرف الشايقية في الغناء والفكاهات ويضحك من قلبه حتي تدمع عيناه . حدثني عن قامات من الغريبة؛ الاداري الفذ والوزير محمد عثمان الخليفة وعن آخرين لم تحفظ الذاكرة أسماءهم وألقابهم ومن النجوم علي الحسن مالك في برنامج ربوع السودان ونقل مباريات كرة القدم ومن الجوار عمر عثمان ومحمد طاهر وعمد وشيوخ ونظار البديرية في كورتي وامبكول وجواري.
حدثني عن مواقف تستشف منها عن سر علاقاته الواسعة التي قل ما تحدد مسارها مذاهب وأيدولوجيات وتحزب أعمي. ذكر لي أن أحد أقربائه كان يدرس في الاتحاد السوفيتي أيام عظمته انقطعت أخباره فنصحوه بالتماس المساعدة من المرحوم السفير والوزير أحمد سليمان المحامي وكان من أبرز وجوه الحزب الشيوعي السوداني وقتها فذهب إليه في دار الحزب فاستقبله الرجل بحفاوة وطلب من زملائه مساعدته في مسعاه مذكرا إياهم مرة بعد أخري أن الرجل ليس (رفيقا). وتوطدت بينهم الصلات عندما جاء أحمد سليمان سفيرا في نيويورك.
وحدثني عن رموز ساكنهم في شبابه وشبابهم عزابا في الخرطوم أذكر منهم ربيع حسن أحمد وعبدالرحيم حمدي ويوسف سلفاب وربما عبدالله حسن أحمد .
أحجمنا عن هذه المراثي لكثرتها وقد أوغلت أعمار جيلنا في التسفار واعتصمنا بالتجلد الذي يردع الدمع السخين وقد يغري بتسكابه أيضاً والركون بديلاً عن ذلك إلي الدعاء الصادق في الأسحار وأدبار الصلوات. لكن رحيل بابكر الفاجع وأنا أجهد في مكالمته كعادتي كان حصاده هذه الكلمات اليسيرات. وقد سرني أن قد تنادي لتشييعه والصلاة عليه خلق كثير رغم فجاءة الوفاة وقصر مدة التبليغ بها وجاء آخرون من خارج الولاية عددوا مناقبه وأثنوا علي سيرته الطيبة الثناء الحسن . تلك بحول الله علامة من علامات القبول كما جاء في صحيح الأحاديث .
اللهم أغفر لبابكر وأسكنه الفردوس الأعلي والعزاء موصول لكل من عرفوه وعرفوا فضله ونقاء سريرته واجعل البركة في ذريته، زوجته الفضلي السيدة فوزية الجنيد ونجليه رواد ووضاح وكريماته رحاب ورباب وآمنة وأربط علي قلوبهم بالصبر الجميل.

Exit mobile version