رأي

وتصدى ولد الشيخ وترجم

مالك محمد طه

ربما يطول بالناس الزمان حتى تهبط على وادي الشعر قصيدة يمكن لها ان تنسخ قصيدة(المولد)، تلك التحفة الأدبية التي تجلت فيها عبقرية التوصيف لدى شاعرها الفحل محمد المهدي المجذوب، ذلك لأن القصيدة فيها من كل شيء في ساحة المولد، شيء،
لم يبرح المجذوب خانة الابداع في كل تفاصيل تلك الليلة، فعزف على أوتار الحروف ألحان النشوى والاستغراق والتأمل، وانتخب الكلمات التي تصور الحركة الموارة والصاخبة في ميدان المولد صعودا ونزولا، وأحسن وضع أفعال الحركة في الموضع الذي يتطلب الحركة، وأجاد في استدعاء أفعال السكون عند الإشارة للهدوء والطمأنينة، واستدعى أفعال التهيؤ والشروع وفقا للحاجة، وهذا لا يستطيعه إلا صاحب معرفة بالكلمات التي تدل على هيئة الفعل، وبالحروف القوية والضعيفة.

وفر المجذوب أفضل نص يمكن أن يتحول إلى مشهد، ولو ابتغى مبتغ انتاج فيلم عن ليلة المولد في السودان فلن يجد نصا متكاملا لتلك الليلة أفضل من هذه القصيدة، ففيها المناسبة والجو العام لها، والمغزى منها، ومفارقاتها، والابطال، والمشاهدون والمحرومون، والمسرح،وصاحب المناسبة (عليه الصلاة والسلام).

ورغم أن المجذوب ينتمي فكريا إلى الحزب الجمهوري بل هو من المؤسسين له، إلا أنه في هذه القصيدة نزعه عرق الإنتساب إلى أرومته(المجاذيب)، هذا رغم أن هناك مشتركات ونقاط التقاء بين الفكر الجمهوري أو الفكرة الجمهورية وفلسفة التصوف، وهذا مبحث آخر(كما يقولون عند الاعتذار عن الاستطراد والخوف من الذهاب بعيدا).

شحن المجذوب قصيدته بالكلمات المثقلة بالظلال والدالة على معناها بدقة، فايقاع الكلمات عند تصوير الصخب فيها القوة..(يضرب النوبة ضربا فتئن وترن ثم
ترفضّ هديراً أو تجن)..(حولها الحلقة ماجت في مدار)..(في الجلابيب تثور.. وتدور) (نقزت ملء الليالي …تحت رايات طوال..كسفين ذي سوار…في عباب كالجبال)، ثم إذا أراد تهدئة المشهد قال:(وتدانت أنفس القوم عناقاً واصطفاقاً،وتعاطوا نشوة طابت مذاقا)..(ومشى في حلقة الذكر فتور)وهكذا، وأظن هذه الملاحظة أشير إليها من قبل.

لكني استوقفتني في القصيدة من بين كل الكلمات كلمة(ترجم) في قوله:(وتصدى ولد الشيخ وترجم)..
هذا الفعل في أصله يعني نقل الكلام من لغة إلى لغة، أو التفسير والإيضاح، فلا بد له من مفعول به، ولكن المجذوب استلفه من قاموس المناسبة، فكان المعنى على النقيض تماما، فهنا استخدم كلمة ترجم لبيان الحالة(وهو الصيحات والهمهمات غير المفهومة)..فترجم التي في القصيدة تعنى أنه قال كلاما غير مفهوم، فجعله المجذوب فعلا لازما وختم البيت به، ويالها من براعة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى