هوامش على متن العدوان

إبراهيم عثمان

أن تكون سياسياً سودانياً، وتختار الإمارات مكاناً للإقامة، وإطلاق التصريحات عن الحرب، فإنك بهذا تكون، بالضرورة، قد أعلنت، لها وللناس، أنك قد اخترت ألا تدين عدوانها على السودان، وقد اخترت أن تكون إداناتك ــ الاضطرارية ــ للميليشيا تحت السقف الذي لا يغضبها، ولا يغضب سيدها، فالأحاديث التي تأتي من حيث يأتي العدوان ستحمل رسالته، أو على الأقل “تتعايش” معها، هذا هو منطق الأشياء، وهو ما يصدقه منطق الممارسة!

إقامة السياسيين في الإمارات ليست اختياراً محايداً معزولاً عن الموقف من العدوان، وليس نزوحاً اضطرارياً لا مجال فيه للاختيار، فهو، في ذاته، بيان سياسي شديد البلاغة والدلالة، وموقف من العدوان، معه أو إلى جانبه، فالالتقاء المكاني المتعمد في وقت العدوان هو تعبير قوي عن الالتقاء في المشروع، ولا يقل في دلالته عن اختيار الإقامة في أماكن “سيطرة” الميليشيا!

يُفترَض أن تشعر الإمارات بالحرج الشديد أمام قيادات قحت/ تقدم/ صمود، فهم قريبون منها، ويُفترَض أن يكون لهم خاطر عندها أكثر من غيرهم، فتحتاج إلى شرح أو تفسير تدخلها لهم، بينما يبدو على هؤلاء القادة الحرج الشديد من طلب الشرح والتفسير و”المناقشة”. وما بين غياب الحرج الإماراتي المفترض وحضور الحرج القحتي تنتج مفارقة تأخذ شكل بجاحة الجلاد وحياء “الضحية”. لكن هؤلاء “القادة” يلغون الحرجين معاً بدفاعهم عن الإمارات، ويخرجون أنفسهم طوعاً من قائمة الضحايا!

لم يكن مفاجئاً ألا يواجه بعض الساسة العدوان الإماراتي بإدانة مغلظة، أو بإدانة مخففة، أو بانتقاد ناعم دون الإدانة، أو حتى بعتاب رقيق، فهذا هو السلوك الطبيعي لأعوان المعتدين على بلادهم في كل زمان ومكان، ولم نكتشفه فقط مع حمدوك ورفاقه، ومن يدورون في فلكهم! ولم يكن مفاجئاً أن يتجنبوا الخيار البديل المتوقع في مثل هذه الحالات، أي الصمت الذي يجنبهم حرج الإدانة وحرج الدفاع، فقد رأوا أن الصمت ــ وهو عار ــ أقل من أن يؤدي واجبهم والتزامهم للمعتدي، ولذلك كان دفاعهم عنه، وانتقادهم لمن ينتقده!

من يقبل بمبدأ التمويل الأجنبي لأنشطته لن يتشدد في “الانتقاء” من بين عارضيه، خاصةً “السخيين” منهم، وبالأخص القريبين منه، ومن يدافع عنهم، ولا أشهر في عروض التمويل، ولا أسخى، ولا أكثر طلباً للدفاع وحصولاً عليه، ولا أقرب لبعض الساسة، من الإمارات. ومن يزعم منهم أنها لم تعرض التمويل سيكون كاذباً، ومن يزعم أنه رفضه سيكون ملزماً بتبيين سبب الرفض، فالطبيعي والمتسق أن من تقبل مبادئه الدفاع عن المعتدي، لن تجعله يرفض تمويله، فمن لم يعاف أكل الجيفة لن يعاف “المطايب”!

عندما يقول حمدوك: (نحن لم نناقش، نحن فصيل مدني ما عندنا علاقة بالسلاح يجي من وين أو يقدموا مين), سيكون من الصعب تصديق أنه ليس هناك أي حديث بينه والإماراتيين حول هذا الأمر، فهو يقيم عندهم ويؤكد تواصله المستمر معهم، فأي مناقشة لا تشمل هذا الأمر ستكون شبيهة بمناقشة بين أب وقاتل ابنه حول الطقس في كولومبيا! وسيفتح الباب واسعا للظن أن ما يناقشه مما “لا يُقال”، ولن يبعد النجعة من يذهب به الظن إلى أنه يناقشهم ليطمئن على قوة الدعم وعلى استمراره!

من يدافعون عن الإمارات في ظل حربها المدمرة، التي تستهدف، أول ما تستهدف، المدنيين العزل، سيجدون صعوبة بالغة في إقناع الناس بأنهم لم يكونوا الوجه المدني لانقلابها الفاشل، أو أنهم ما كانوا ليدعموه حال نجاحه، فمن يدافعون عنها وهي تشن حربها “القذرة”، سيصعب عليهم إقناع الناس أنهم سيرفضون انقلابها الخاطف “النظيف” من دماء المدنيين!

المؤكد أنهم سيحتاجون إلى معجزة ليقنعوا الناس بأنهم لا ينظرون إلى العدوان بإيجابية، لأنه يخدم مصالحهم من عدة أوجه: يأتي من دولة تدعمهم، ويستهدف “عدوهم”، ويساعد في تحقيق “التوازن” الذي يمنع، او يصعِّب، هزيمة الميليشيا ويضاعف كلفتها، وهم يمنحونه “شرعية” مستمرة طالما استمر الجيش في شراء السلاح من الخارج، فالمساواة بين سلاح العدوان وسلاح الحماية كانت هي حيلتهم الدفاعية الرئيسية!

مقدار “الشرعية” التي “تعتقد” الإمارات أنها تتوفر لعدوانها على السودان يعتمد بشكل كبير على مستوى عمالة أتباعها السودانيين، المسلحين وغير المسلحين، ودرجة تبعيتهم، واستعدادهم لتوفير الغطاء السوداني للعدوان، كل بطريقته وحسب استطاعته، فلولا تعاونهم مع عدوانها، بالأفعال أو الأقوال، لعجزت ــ عملياً ــ عن تنفيذه، ولفكرت ألف مرة قبل الإقدام عليه، بل وربما لما فكرت فيه من الأصل، و”اضطرت” إلى التظاهر بالتعامل “الطبيعي” مع السودان، مع العمل على السيطرة عليه، بمساعدة الأعوان، بالنقاط لا بالضربة الانقلابية الخاطفة، ولا الحرب المدمرة!

لم يكن غريباً ألا ينتقد جماعة تقدم/ صمود أي من “معاوني” الإمارات والميليشيا أقل انتقاد، ولو بجملة واحدة باهتة لكل منهم لغرض رفع العتب ودرء تهمة ألتواطؤ: لا تشاد، ولا كينيا، ولا المرتزقة الأجانب، ولا المواطنين المتعاونين مع الميليشيا، ولم يكن غريباً أن يدافعوا عن “بعضهم”. لم يكن هذا غريباً أو مفاجئاً لأحد؛ ببساطة لأنه ليس من بين عيوبهم عدم مراعاة “حقوق الزمالة”!

بدون دعم الإمارات كان تمرد الميليشيا قد حُسِم مبكراً، أو كان حسمه قد قطع أشواطاً أكبر. وما تسيطر عليه الميليشيا الآن ، هو إلى حد كبير، ما “حققته” الإمارات، لن يغالط في هذه الحقيقة إلا الأكثر يقيناً بصحتها واستثماراً فيها! ولن يسخر من الحديث عن وجود مؤامرة أجنبية، ويسفهه، إلا من يصل إيمانهم بوجودها حد التعويل التام عليها، لأن قوة التعويل تجعل ثبوت المؤامرة يعني، تلقائياً، ثبوت ضلوعهم فيها!

التفاوض الذي يقوم على مقايضة “السيطرة القذرة” بمكاسب لصاحبها، سيكون ــ في الجوهر ــ خضوعاً لشروط الميدان التي فرضتها الإمارات، وبالتالي سيكون التفاوض قائماً، في الجزء الرئيسي منه، على بحث ما تطلبه من مكافآت، لتبحث هي، بدورها، ما تتبرع به منها على مكفوليها المسلحين والمدنيين!

لم يكن مفاجئاً لأحد أن تعمل الإمارات لتشكيل حكومة تقسيم لأول مرة في تاريخ حركات التمرد في السودان، فهي مشهورة بالتهور وبعدم احترام سيادة الدول وتقسيمها وتهديد وجودها. ولم يكن مفاجئاً أن تحتاج لتشكيل تحالف “علني” مع الميليشيا لتشكيل حكومتها، ولم يكن هناك من يتوقع ألا تبحث عنه في “تقدم”، أو من يتوقع أن يفشل بحثها!

لم يكن بين الذين استجابوا لأمر الإمارات، واعلنوا تحالفهم مع الميليشيا بعد طول تستر، من هو أقرب إلى الإمارات والميليشيا من رئيس “تقدم/صمود” عبد الله حمدوك، ولو أرادت الإمارات أن يكون فوق، أو تحت، المتمرد حميدتي في حكومتها في نيالا لكان لها ما أرادت، لكنها “لا تخفي” أنها تدخره، ومن معه، لحكومتها في الخرطوم!

في أبجديات الحروب هناك دائماً ادعاء حتى لو كان كاذباً: رد عدوان، حماية للنفس، استباق لخطر، حماية لشعب شقيق يتعرض للعدوان .. إلخ لكن هنا، في عدوان الإمارات على السودان، لا ادعاء، ولا ذريعة، ولا بيان حرب، بل عدوان محض خالص، خالٍ من المرافعة، اللهم إلا تلك الخجولة التي يقوم بها هؤلاء الذين يحتضنهم المعتدي ويعتد بهم كممثل وحيد وشرعي للشعب السوداني!

لا تعترض الإمارات على دفاع أعوانها رغم أنه يورطها، بما فيه من إقرار بدعمها للميليشيا. ولا ينتقد أعوانها النفي الإماراتي رغم علمهم بعدم صحته. فلا هي تتهمهم بالإقرار الكاذب، ولا هم يتهمونها بالإنكار المضلل، وما بين صدق الإقرار الذي يلغيه زيف التبرير، وكـذب الإنكار الذي يثبته القبول بالتبرير، ما بين هذا وذاك، يصل التواطؤ العدواني إلى ذروته، رغم التضاد الظاهري بين الإقرار والإنكار!

Exit mobile version