رأي

هجمات امدرمان “فرفرة مذبوح”

د. أسامة محمد عبدالرحيم

منذ اندلاع الحرب التي أشعلتها مليشيا الدعم السريع في أبريل 2023م، وبعد أكثر من عامين من الحرب، تتضح الملامح الكاملة لانهيار المليشيا وفقدانها زمام المبادرة، وظلّت هذه الجماعة الإجرامية تبرهن كل يوم على أنها ليست سوى أداة تخريبية بيد الخارج، تنفذ أجنداته على حساب دماء السودانيين وأمنهم واستقرارهم. جرائم القتل الجماعي، الانتهاكات الممنهجة، الاغتصاب، التهجير القسري، وتدمير المدن والقرى؛ كلها بصمات واضحة في سجلها الأسود. واليوم تعود مجددًا عبر ما يسمى بـ”حكومة تأسيس”، التي أعلنت من نيالا بدعم مباشر من قوى سياسية مأجورة وعميلة، تمثل الغطاء السياسي لهذه المليشيا وشريكة أصيلة في كل الفظائع المرتكبة.

مع فجر هذا اليوم، تعرّضت مدينة أم درمان و عدة مناطق بالخرطوم و الخرطوم بحري؛ لسلسلة هجمات بالطائرات المسيّرة، بلغ عددها أكثر من عشر مسيّرات تم رصدها تحلق في سماء العاصمة، استهدفت محطات الكهرباء في المدينة. هذا العمل الإجرامي يصنف و بشكل مباشر كجريمة ضد المدنيين و العُزَّل، ولا يدخل ضمن مفهوم “الأهداف العسكرية”، بل هو استهداف مباشر للبنية التحتية المدنية والخدمية، وهو ما يرقى”وفق القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف” إلى مستوى جريمة حرب جديدة تضاف إلى سجل مليشيا الدعم السريع ومن يساندها.

يبدو ان لمليشيا و قوات التمرد اهدافًا و مقاصدًا من هذه الهجمات، كما ان هناك عدة دلالات، منها:

أن قوات و مليشيا التمرد تحاول إعلاء المكاسب الميدانية لصالح المفاوضات، فهذا النوع من العمليات العسكرية – رغم ضعف جدواه الاستراتيجي – يُستخدم كورقة ضغط في أي مسار تفاوضي جارٍ او متوقع. مليشيا الدعم السريع، التي خسرت الأرض وتراجعت معنويات قواتها، تريد أن تصنع وهم التفوق عبر ضربات إعلامية تُسوّق كـ”انتصارات” أمام الوسطاء الإقليميين والدوليين. فالهجمات على البنى التحتية المدنية، وإن كانت لا تحقق هدفًا عسكريًا، لكنها تمنح المليشيا مادة دعائية تسعى لاستثمارها في طاولات الحوار، لإيهام العالم بأنها ما تزال قوة قادرة على الفعل.

كذلك فهي تحاول منع عودة المواطنين لمنازلهم بالعاصمة الخرطوم، خلال الأسابيع الأخيرة، بدأت حركة عودة طبيعية للسكان إلى بعض مناطق الخرطوم وأم درمان، وهو ما مثل تحديًا لمشروع التهجير القسري الذي اثبت فشله و هو السلوك الذي انتهجته المليشيا منذ بداية الحرب. استهداف محطات الكهرباء في مدينة كبرى مثل أم درمان، ليس إلا محاولة لإبقاء الحياة فيها شبه مستحيلة، ومن ثم دفع السكان للابتعاد مجددًا. بهذا، تسعى المليشيا لتثبيت أحد أخطر أهدافها؛ إحداث تغيير ديمغرافي ممنهج يخدم مصالحها السياسية والاجتماعية على المدى البعيد.

كذلك من اهدافها قطع الطريق أمام الاعمار، فقد بدأت بالفعل ملامح الخطاب الوطني والإقليمي والدولي تتجه نحو إعادة الإعمار كأفق للخروج من الحرب. هذه العودة لإعمار الخرطوم وباقي المدن تمثل نقيضًا لمشروع الخراب الذي تبنته المليشيا. لذلك جاء الاستهداف ليبعث برسالة مفادها أن الخراب مستمر، وأن أي محاولة لإعادة البناء ستواجه العرقلة والدمار. هو إذن هجوم على “الأمل”، قبل أن يكون هجومًا على “محطة كهرباء”.

توقيت الهجوم لا ينفصل عن إعلان ما يسمى “حكومة تأسيس” في نيالا. المليشيا أرادت أن تمنح هذه الحكومة الهلامية الوليدة “بصمة دموية” في لحظة ميلادها، لتقول: ها نحن موجودون بقوة السلاح. فالهجوم إذن ليس مجرد عمل عسكري، بل هو أيضًا تدشين سياسي لحكومة صورية أرادت أن تُعرّف نفسها للعالم عبر القصف والتخريب. إنها بداية ملوثة بالدم والبارود، تكشف طبيعة و أهداف هذه الكيانات ومن يقف خلفها.

بعد أن أصبح اسم “الدعم السريع” مرادفًا للجرائم ضد الإنسانية، والاغتصاب الجماعي، والنهب، والتهجير، تسعى المليشيا عبر حكومة تأسيس إلى إعادة تسويق نفسها؛ من خلال محاولة إعادة إنتاج صورة زائفة، ومحاولة بث أوهام القوة، فهذا الهجوم يهدف لربط “تأسيس” بالفعل العسكري بدلًا من الإرث الدموي القديم، لكن النتيجة الحقيقية أنه ينقل التلوث الأخلاقي من المليشيا إلى واجهتها السياسية. أي أن عملية الـ Rebranding تحولت إلى عملية غسيل قذر للجرائم، لكنها غسيل لا ينجح، لأن الدماء لا تمحوها الشعارات و لا تزيلها الهتافات و البيانات.

على المستوى الداخلي، تعيش المليشيا حالة تفكك من انشقاقات، هروب، انحسار موارد، انهيار الإمداد. في مثل هذه الظروف، تسعى القيادات لخلق “صدمة إيجابية” لقواتها عبر عمليات استعراضية. الهدف ليس عسكريًا بقدر ما هو نفسي ومعنوي؛ أن يشعر الجنود والفلول أنهم ما زالوا قادرين على الإيذاء، حتى لو لم يحققوا أي نصر حقيقي. هذا النمط معروف في الحروب عند الجيوش أو المليشيات المهزومة؛ إنها محاولات منع الانهيار النفسي و منع التفلت، أكثر من كونها معارك حقيقية.

لا يمكن النظر إلى هذه الحكومة الوليدة إلا باعتبارها شريكًا مباشرًا في الجريمة؛ فهي تغطي سياسيًا على ما ترتكبه المليشيا ميدانيًا. ما قامت به من إعلان سياسي، ثم ربطه بمثل هذه العمليات التخريبية، يجعلها في خانة المسؤولية الكاملة عن الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، ويضعها أمام القانون والتاريخ كشريك أصيل في التدمير الممنهج للدولة السودانية.

إن ما قامت به مليشيا الدعم السريع اليوم لا يعدو كونه “فرفرة مذبوح”، بعد أن أوشكت أنفاسها أن تتلاشى تحت وقع الهزائم الميدانية، والرفض الشعبي الجارف، والانشقاقات الداخلية. كل محاولة لإظهار القوة ليست سوى ردة فعل يائسة لمليشيا تحتضر، تحاول أن تصنع حضورًا إعلاميًا وسياسيًا بآخر ما تبقى لها من أوراق.

ستسجل هذه الهجمات في التاريخ كواحدة من تجليات انهيار المشروع التخريبي للدعم السريع وحلفائه. فالمليشيا، رغم جرائمها وإجرامها، لم يعد أمامها سوى الارتباك والتخبط، في وقت يمضي فيه السودان، بجيشه وشعبه، نحو حسم المعركة وإعادة بناء الوطن على أسس جديدة من الحرية والسلام والعدالة. أما “تأسيس” فهي ليست سوى قناع هش و قميء لمليشيا فقدت شرعيتها، وستسقط بسقوطها، إذ لا مستقبل للدماء والخيانات مهما تلوّنت بالشعارات، إن دماء الأبرياء لا تُمحى، والعدالة ستظل تلاحق كل متورط حتى سقوط آخر قناع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى