هاشم صديق ألفين سلام وانت يا يابا المطر ..

إبراهيم أحمد الحسن

(1)
و.. قطر ماش / وعمي الزين وكيل صنطور / وقطر ماش زي ما الدنيا سكة طويييلة مرة تعدى مرة تهدي مرة تدور/ وعمي الزين محكر في قطار الهم / يغرب يوم يشرق يوم شهور ودهور /…
هيييي قطر الهم ثم صوت عجلات القطار ..يرتفع الهوينى قبل ان يصطخب ويضج وصوت صلصلة سلاسل عربات القطار يئز صاكاً آذاننا الطفلة ، ندخل قطار الهم يافعين ، نسافر به عين الخيال … ثم نصحو على صوت الراوي في المقدمة عند قطار الهم ( حفظنا المحطات محطة محطة .. جبل موية ..جبل عطشان .. حبل رويان ..ود الحوري ..ود النيل .. ود سجمان / وحتى الناظر وجرسو النايم ولون المكتب / وعفش الناس الماشي يناهد بالكيمان … قطر الهم تأليف هاشم صديق .. ومن ذاك اليوم اصبح هاشم صديق صفحة في مفكرتنا الصغيرة نكتب عنه ومنه ثم نشطب ونكتب ، لنكتب ونشطب ونحن ما زلنا أطفال يافعين (نشخبط) في الكراريس .
(2)
كان ذلك هو هاشم صديق عشناه في الدراما الإذاعية الأشهر في سبعينات القرن الماضي (قطر الهم ) .. “قطر زي الدنيا ..أشكال والوان من الناس ..ناس تنزل ناس تركب ..وناس تنزل وناس تقول كلام مفهوم وناس ترطن ..ناس عرسان وناس مهمومين ..ناس ماشين يعزوا ،وناس ماشين يهنوا .. ناس ماشين للفُسحة .. ناس في الشغل وناس دايرين من الكمساري .. وناس حاجزين نوم .. هييي قطر زي الدنيا .. محطة تشيل ناس ومحطة تفضى ناس والقطر مااااش …وماااش ..وماااش ،، كو ككو كو ككو كو ..يوم نشرق يوم نغرب .. يوم شمال يوم جنوب .. مرة واو .. مرة الأُبيض مرة النيل ومرة كسلا كمان دوران .. وفي الخرطوم اخير نتصبر ونرجى الباقي وفي الفصل الجاي ح نترجااك”.. قطر الهم ..
( 3)
“يا جنا.. فى بُعادنا عن أرض الحنان الليلة مرّت كم سنة/ ياريت نعود للدار سُراع نرتاح تحت شتل الهنا”.
حين وصلت الاغنية سدرة منتهاها عند “الليلة زارتنا الرؤى المنسوجة من عُمق الجذور”، أطبق عليّ النعاس، في غربة بعيدة وطويلة لوّحت لي خاصية الإيقاف التلقائي في جهاز للتسجيل يغني فيه ابن البادية وينسج هاشم صديق الرؤى ، تلوح لي خاصية الإيقاف التلقائي مودعة بآخر المقاطع: ” ألفين سلام يا يُمة يا شتل المحنّة الشبّ في وسط الجروف/ ألفين سلام يا يابا يا الدرع المتين اللّيهو كم سجدت سيوف”.
(4)
وفي دكان العم علي صالح قاسريب في سبعينات القرن الماضي أقف اتأمل دخان ينطلق بكثافة ولا يلبث ان يخفت قبل ان ينقشع ،من ( مبخر ) يلهلب جمره ليتصاعد خيط دخانه يراقص نغم راديو الفيليبس الفخيم و هو يذيع علي الموجة القصيرة سمح كلام هاشم صديق لحناً من هنا ام درمان يصدح فيه المغني صلاح ابن البادية بمقامه السامي و فنه الرفيع ( فى مرة طاف بينا الخيال بعد الغياب الطال جرح / شفنا البخور فى الريح عبق والليل شرب عطر الطلح / و حدا الطريق قام الخدار حاضن صفيقات القمح / والغيم ربط فوق للفريق شافو الشتل شابى وفرح / والقمرة نامت فى الرمال والطين شرب نديان صبح / والوادى فرهد بالخريف اخضر بقشو السمح ) . تجذبني كلمات الاغنية وأنسى المرسال للدكان العتيق ، وارجع للبيت اسأل من جديد : قلتوا لي جيب شنو ؟
(5)
هل استطيع ان أتحدى بالحرف الالم ، واكتب عن هاشم صديق ، اكتب حاجة لا بتنتهي ولا بتبتدئ ؟ لن استطع ولا استطيع وقد خلد هاشم فينا حاجات كثيرة حاجات نقشها في دواخلنا قطار الهم ثم حاجة .. حاجة (حاجة زي نقر الاصابع لما ترتاح للموسيقى / حاجة زي اخبار تناغم في جريدة / حاجة زي وتر المواني / لما تصدح ل سفينة / حاجة فيك لا بتبتدئ لا بتنتهي / خلتني ارجع للقلم )
(6)
حين تقرأ ما كتبه هاشم صديّق، وهو يطلق العنان لشاعريته السودانية لتبلغ مداها: “واتحدى بالحرف الألم/ وأضحك مع الزمن العريض/ وأنسف متاريس الطريق/ وأعرف متين أبقى المطر/ وأفهم متين أبقى الحريق”. حين تفعل ذلك وتغوص في شاعرية من كتب تفكك الشفرات والرموز ، تتوه في البلاغة وجرس الكلمات لا تملك إلا ان تصبح كدرويش في ساحة ذكر .. الله .. الله .. الله
(7)
هاشم صديق الذي وصف به احساسه ذات يوم بانه “حاجة زي نقر الأصابع/ لما ترتاح للموسيقى” لا تملك إلا ان تنقر بأصابعك علي اي وسط كان ليكتمل إيقاع الموسيقى الناقص عندك.. اياً كان الوسيط ، طاولة ، كرسي تجلس عليه ، حائط تتكي عليه ، وان لم تجد انقر بها الهواء الطلق امامك ، يستقيم الإيقاع ويتوقع اللحن ، ولا غرو فقد ارتاحت الأصابع للموسيقي !! واي موسيقى هي ؟، انها موسيقى اشعار هاشم صديق تعزف ألحانها علي (وتر مشدود علي كبد الزمان يرن براهو بلا تقرب ليهو يد ).
(8)
واليوم ترجل الفارس الهمام من قطار الهم .. قطر زي الدنيا .. محطة تشيل ناس ، ومحطة تفضى ناس ، والقطر مااااش …وماااش ..وماااش ،، كو ككو كو ككو كو ..يوم نشرق يوم نغرب .. يوم شمال يوم جنوب .. ترجل هاشم صديق وترك وراءه (عم الزين) محكر في قطار الهم ، يغرب يوم يشرق يوم شهور ودهور .
(9)
رحل هاشم صديق ونحن في الدرب الطويل درب الرحيل واقفين نلوح في “الهوى” وفي “الهواء” بإبدينا “نودع الراحلين بآهاتنا بدمعاتنا وما قادرين نفوتو قدرنا ما قادرين” !
(10)
اللهم يا الله يا كريم قد جاءك هاشم صديق ، صادقاً ، صديقاً ، صبوراً وامين ، اللهم اكرم نزله مع الصديقين والشهداء والصالحين ، اللهم افرغ علينا وعلي آله وآل بيته وذويه وصحبه الصبر وحسن العزاء ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

Exit mobile version