نسرين النمر
ليس التاريخ سجلًا لما انقضى فحسب، قراءة التاريخ تمنح فهمًا عميقًا للواقع، وتفسّر كثيرًا من أحداثه، وتمنح تفسيرًا لما يبدو عارضًا من الأحداث.
وعلى كثرة ما فيه من روايات مؤلمة ومآسٍ وانكسارات، يظل التاريخ دليلًا استباقيا لمسارات (القوة والانحطاط) ويمنح قراءة مبكرة لما هو قادم.
وهو ما جاد به الفكر الماركسي حول التاريخ كمادة تحليلية لفهم التحولات والتغييرات الاجتماعية، ومن يفهمها يستطيع أن يتنبّأ بمسارات المستقبل وتشكيله.
وتبقى المفارقة أن ما نظنه جديدًا ما هو إلا تكرار مؤجَّل لتجارب قديمة وشخوص لم تُفهم جيدًا، فالشخصيات والعصور تتكرر، وإن اختلفت أنماطها، وتبقى الدهشة في مدى تطابق هذا التكرار عبر الزمن، ولنا في أقنان (أبو ظبي) الجدد عظة وعبرة.
وهم الذين عبّر عنهم دوستويفسكي، حين قال “روحٌ مكسورة تبحث عن المال لتشتري به خيانتها التالية”.
أقنان أبو ظبي.. في التاريخ (صمود) وما حولها
تاريخيا هم فئة اجتماعية في زمن الإقطاع، وقد شكلوا قاعدة للسلطة عبر قرون طويلة، فالقِنّ فلاح مرتبط بالأرض لا يملكها، ولا يملك حرية مغادرتها، ويخضع لسلطة السيد الإقطاعي، وأيضا ليس عبدا يباع (منفردا). حتى أضحى رمزا للخضوع والطاعة العمياء، وبيع المواقف مقابل البقاء.
والنسخة العصرية من هؤلاء الأقنان تجدها حاضرة في مواقف الانتهازيين العاجزين من ساسة (صمود) الذين وقفوا ضد الشعب وبرّروا فعائل حليفهم الجنجويدي، وكل ما ارتكبه من قتل واغتصاب ونهب وتدمير، بسرديات مفضوحة، ويسعون اليوم في كل فضاء للحديث عن الوطن وإيقاف الحرب!!
وطن خانوه مرتين، عندما لم يمتلكوا القدرة على الحفاظ عليه ورهنوا سيادته لدى أولاد زايد، ومرة عندما غادروه ليأتوا على رافعة الخارج بعد فقدانهم للقب (رجالات الدولة) والرجولة منهم براء.
*عندما يتحدّث الانتهازي الخائن لوطنه عن الصدق والكذب:
ولا بأس من استدعاء التاريخ مرة بعد مرة، لنفهم بعض طبائع الشخصيات بلغة عصرنا (كتاب، صحفيين، ناشطين).
فقد ظهر في أوروبا أواخر القرن التاسع عشر ما عُرف (بالحركة الانحطاطية)، تيار أدبي واجتماعي، عبّر عن شعور عميق بأفول القيم وانهيار المعاني السامية في المجتمعات الحديثة، فاحتفى بالانحراف واللذة، والتمرد على الأخلاق التقليدية، وجعل من الانحطاط ذاته موقفا احتفائيا واعيا، لا علامة ضعف وسقوط.
وليصنع القارئ روايته الحديثة بأي أسماء يريد ليدلل على أمثلة هؤلاء (الَجخ – الخنيع ونانا )؛ فجميع الأسماء سيان في مستنقع قاذورات (الأقنان) أو (صمود).
أولهم لم يدرك من المعرفة ولا الثقافة والفكر حظا، بل قادته الصدفة أو (الصدقة) ليكون في دائرة الإعلام، خرج بلسان ركيك يبشر شعبه بالويل والثبور وأن العزة في الخنوع والانبطاح، والمجد كل المجد للميليشيا، ليس لديه ماء وجه ليريقه، بل ليس له عقل مكتمل، وهذه إرادة الله، وربما شفاعته عند موقف عظيم.
لا يستحق أن يأخذ حظنا في القراءة أكثر، فنموذجه في التاريخ أكثر الشخصيات بلاهة وعتها ونقصان عقل، ممّن يدخلون للعمل من بوابة ذوي القربى، يتسلق كل البوابات الخلفية غير ذات القدرة على الوصول إلا لمقابض الهبوط.
والثاني يخرج ليتحدث عن الصدق والنزاهة والفضيلة الغائبة في (المقال) الذي أغضب سيدهم وكفيلهم وسيحرمهم الدراهم الموعودة، أما وجدوا غير هذا القِنّ للحديث؟
كيف لمن لا يملك شرف الدفاع عن عرضه الحديث عن الصدق والكذب، وهو يعلم أن حديثه لا يزيده إلا انكشافا، إنه شرف لا تدعيه وفضيلة لن تنالها حتى وإن برأك (الرفاق)..
وثالثتهم التي أعطت وما استبقت لروحها شيئا، حالها كحال (نانا) وربما ليس الاسم مصادفة، فقد استخدمه (إميل زولا) كبطلة رئيسة في روايته التي تحمل ذات الاسم، كانت يوما مطمع الرجال من كل الطبقات (نبلاء، سياسيين وأثرياء)، حتى أضحت خرقة بالية كنست قاذورات الجميع.. إنها نموذج المرأة الساقطة، التي فقدت قيمتها الاجتماعية وتعيش على التملق والخداع، وبعض ما يلقى عليها من فتات. نموذج ترثى لحاله بقدر احتقاره.
واليوم من يحتاج لمن يشاهد مدى هذا الانحطاط السياسي الذي بلغه هؤلاء (الأقنان)، فليجد في التاريخ مبتغاه، فقد أعادوا أكثر فصوله ظلاما وانحطاطا، وليس أقسى على القيم عندما يتصدرها أمثال هؤلاء (فلان وفلان ونانا)، ولتضعوا ما شئتم من أسماء، فجميعهم سيبيعون قبل أن تسألهم عن الثمن. وما واجهات العمل الإعلامي ببعض الدول الإفريقية إلا نموذج، أما (ultra 23) فعلى كل من يحمله التخلص منه فوراً لأن دقلو 2 يراقب من خلاله (معه حق يريد أن يطمئن على أن أمواله تذهب للعمل وليس لغيره)، التليفون تليفونه والفلوس فلوسه.
الخَنيع: الذليل الوضيع، الذي لا عِزّة له ولا إباء.
ويُقال: رجل خنيع أي مهان ساقط القدر
الجخ : الشخص الغبي أو البليد جدًا ثقيل الاستيعاب
