نهج إدارة ترامب في السودان بين صفقات قصيرة المدى وتوازنات إقليمية معقّدة

مقدمة

 

منذ الأشهر الأولى لعودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في ولايته الحالية، وجد السودان نفسه في قلب مشهد إقليمي محتدم تُعاد صياغته من جديد. وعلى الرغم من تصريحات الإدارة الأمريكية حول “إنهاء الحرب” و“دعم السلام”، فإن تحليل المقاربة الأمريكية — كما يقدّمه الخبير الأمريكي في شؤون السودان كاميرون هدسون — يشير إلى أن ما يجري ليس عملية سلام بقدر ما هو إدارة لتوازنات إقليمية ومحاولة للتوصل إلى صفقة قصيرة المدى تتوافق مع رؤية ترامب وفريقه للشرق الأوسط والقرن الأفريقي.

هذه الورقة تجمع بين تحليل هدسون والسياق الإقليمي والدبلوماسي الأوسع، لتقدّم قراءة سردية شاملة لكيفية رؤية إدارة ترامب للحرب السودانية، وما الذي يمكن أن يعنيه ذلك لسير الصراع وفرص إنهائه.

أولاً: حربان في السودان… إحداهما لا تُرى

 

يرى هدسون أن السودان يشهد حربين في الوقت ذاته: 1. حرب داخلية علنية بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع. 2. وحرب خفية أوسع تُخاض على مستوى الإقليم، بين دول تتنافس على النفوذ والموارد والموضع الجيوسياسي للسودان.

هذه الحرب الثانية — التي تتقاطع فيها مصالح الإمارات ومصر والسعودية وإيران وتركيا وتشاد وليبيا — هي، من وجهة النظر الأمريكية، المعركة الحقيقية. فواشنطن لا ترى السودان كدولة منفردة، بل كحلقة ضمن شبكة أوسع من إعادة تشكيل النفوذ في الشرق الأوسط والقرن الأفريقي، في ظل صعود الصين واتفاقيات السعودية مع الولايات المتحدة، ومحاولات الإمارات فرض نفوذ عسكري وتجاري يمتد من القرن الأفريقي إلى البحر الأحمر.

وعليه، فإن اهتمام الإدارة الأمريكية ينصب بشكل أوضح على احتواء تنافس الحلفاء وليس حلّ جذور الأزمة السودانية نفسها.

ثانياً: منطق “عقد الصفقات”

السلام كما يتخيله ترامب

 

يوضح هدسون أن ترامب لا يفكّر بمفاهيم “صنع السلام” التقليدية: العدالة، بناء المؤسسات، الإصلاح الأمني، أو حتى حماية المدنيين. بل يفكر بمنطق مختلف: عقد صفقة سريعة تنتج صورة سياسية يمكن بيعها داخلياً باعتبارها “نجاحاً دبلوماسياً”.

في منظور ترامب: • لا يحتاج السودان إلى عملية سلام معقّدة. • بل يحتاج إلى وقف إطلاق نار محدود أو اتفاق إنساني يمكن الإعلان عنه. • ثم الوصول إلى “تفاهم” بين القوى الإقليمية الكبرى.

هذا النهج يتجاهل البنية العميقة للصراع: التطهير العرقي، انهيار الدولة، انتشار المليشيات، الدمار الاقتصادي، وغياب أي قاعدة سياسية جامعة. ومن هنا تأتي تحذيرات هدسون للسودانيين: “قد لا تريدون أن يتدخل ترامب بنفسه ويبدأ باختيار الفائز والخاسر في السودان.”

ذلك لأن أي “صفقة سريعة” ستُبنى على حسابات نفوذ إقليمي، لا على أساس توازنات سياسية سودانية أو مصالح المجتمع المدني.

ثالثاً: نحو تسوية نُخبوية… وليس سلاماً مستقراً

 

يعترف هدسون بأن مسار الإدارة الحالية يقود إلى صفقة بين النخب — أي إعادة تشكيل السلطة عبر تفاهمات تُبرَم بين: • واشنطن • أبوظبي • الرياض • القاهرة • وبعض الأطراف السودانية القابلة للدمج ضمن هذه الترتيبات

هذا النموذج هو نفسه الذي حكم اتفاقيات 2019–2021، التي سمحت للدعم السريع بأن يتحول إلى قوة مُتغوّلة، وأدخلت البلاد في مسار أفضى مباشرة إلى حرب 2023.

ويحذّر هدسون من أن إعادة إنتاج هذا النموذج اليوم — بقوة أكبر، وتدخل إقليمي أعمق — سيؤدي إلى: • ترسيخ نفوذ القوى الإقليمية الداعمة للأطراف المسلحة، • ومنح الشرعية لحدوث “توازن جديد” لا يعالج أسباب الحرب، • وتهميش مطالب العدالة والمساءلة، • وإبقاء المدنيين خارج المعادلة السياسية.

رابعاً: العقوبات الأمريكية… أدوات

محدودة وملفوفة بالاعتبارات الإقليمية

 

فرضت إدارة ترامب خلال الأشهر الماضية بعض العقوبات “المحدودة” على أطراف الصراع. إلا أن هدسون يؤكد أنها لن تقترب من الحلفاء الإقليميين مهما كان حجم دورهم في دعم المليشيات أو توريد السلاح أو تمويل العمليات العسكرية.

ويرجع ذلك لسببين رئيسيين: 1. الأولوية الاستراتيجية للعلاقات الإقليمية – واشنطن ترى السعودية والإمارات ومصر شركاء في ملفات أكبر: الصين، أمن البحر الأحمر، اتفاقيات التطبيع، السيطرة على سلاسل الإمداد. 2. طبيعة تفكير ترامب – الذي يفضل “التفاوض” مع الحلفاء بدلًا من “الضغط” عليهم. – ويرى أن الحلفاء — مهما كانت أخطاؤهم — أكثر قيمة من أي ملف داخل السودان.

لذلك فإن سقف العقوبات سيظل منخفضاً، وستستهدف أطرافًا سودانية أكثر من استهداف الدول التي تحرك الحرب في الخلفية.

خامساً: حسابات واشنطن الأكبر

السودان كملف ثانوي في معادلة كبرى

 

تنظر إدارة ترامب إلى الإقليم من منظور أوسع بكثير من السودان نفسه: • صراع النفوذ مع الصين • إعادة هندسة التحالفات مع السعودية • ضبط أدوار الإمارات • منع تصاعد النفوذ الإيراني • تأمين خطوط الملاحة في البحر الأحمر

في ظل هذه الحسابات:

يصبح السودان ملفًا يُدار لا أزمة تُحل.

ويُفهم من ذلك أن واشنطن لا تسعى لسلام شامل، بل تسعى لصفقة تُبقي النفوذ الإقليمي تحت السيطرة.

سادساً: ماذا يعني هذا المسار للسودانيين؟

 

في ضوء تحليل هدسون والسياق السياسي:

لا يوجد مسار سلام حقيقي في الأفق

بل توجد “صفقة” قيد الإعداد، تشارك فيها القوى الإقليمية، ويُتوقع أن تنتج ترتيبات نُخبوية فوقية.

المدنيون والمجتمع المدني خارج المعادلة

لأن عملية السلام ليست محور الاهتمام الأمريكي.

العدالة والمساءلة غير مطروحة على الطاولة

فالإدارة تركّز على “وقف نزيف” سياسي لا على معالجة الجرائم أو إعادة بناء المؤسسات.

القوى الإقليمية ستزداد نفوذًا

لأن واشنطن لن تضغط عليها، خصوصًا في ظل تحالفات استراتيجية جديدة مع الرياض وأبوظبي.

مستقبل السودان سيُحسم خارج السودان

بناءً على معادلات القوة الإقليمية والدولية أكثر مما يُحسم بإرادة السودانيين أنفسهم.

خاتمة

 

تُظهر تصريحات كاميرون هدسون، مقترنة بالتحركات الدبلوماسية لواشنطن، أن إدارة ترامب تتعامل مع السودان باعتباره ساحة لتوازنات إقليمية، لا باعتباره بلدًا يقف على حافة الانهيار الإنساني والسياسي. وبذلك تتحول المقاربة الأمريكية إلى عملية إدارة أزمة لا حلّ أزمة، وإلى سعي لصياغة صفقة قصيرة المدى يمكن تسويقها سياسيًا، لا لبناء سلام طويل الأمد أو دعم انتقال سياسي حقيقي.

ولأن هذه المقاربة تُبقي على جذور الأزمة دون حل، فإن السودان، وفق هذا المسار، قد يدخل في مرحلة جديدة من “الاستقرار الزائف” الذي لا يعالج أسباب الحرب، ولا يحقق العدالة، ولا يعيد بناء الدولة — بل يؤجل الانفجار القادم ويجعله أكثر خطورة.

Exit mobile version