نماذج دولية في بناء القوانين والتشريعات الإعلامية لحماية الأمن الوطني

صباح المكّي

أولًا: إسرائيل، الرقابة المؤسسية باسم الأمن القومي

تُعدّ إسرائيل من أوائل الدول التي أسّست منظومة رقابة رسمية متكاملة تحت مسمى “الرقابة العسكرية”، وهي وحدة تابعة لمديرية الاستخبارات العسكرية (أمان) داخل الجيش الإسرائيلي، وتعمل بموجب لوائح الطوارئ البريطانية لعام ١٩٤٥ التي أبقت عليها الدولة بعد إعلان قيامها.
تُلزم هذه المنظومة جميع الصحف والقنوات والإذاعات، وحتى المراسلين الأجانب، بعرض المواد المتعلقة بالقضايا الأمنية والعسكرية على الرقيب العسكري قبل النشر، وله سلطة المنع أو الحذف أو التأجيل لأي مادة يرى أنها تضر بالأمن القومي أو “المعنويات العامة”.
ورغم أن المحكمة العليا الإسرائيلية حاولت وضع مبدأ توازني تحت مسمى “اليقين شبه المؤكد بالضرر”، بحيث لا تُمارس الرقابة إلا إذا كان الخطر من النشر مؤكدًا تقريبًا، فإن هذا المبدأ يُجمّد فعليًا أثناء الحرب، إذ تُمنع أي تغطية قد تُظهر الخسائر أو تُضعف صورة الجيش أمام الجمهور.
فمنذ حرب لبنان، مرورًا بغزوات غزة، وصولًا إلى حرب ٢٠٢٣، ظلّ المشهد واحدًا: الإعلام الإسرائيلي يتحدث بلسان المؤسسة العسكرية، لا العكس.
وفي الأزمات الكبرى، تمتد الرقابة لتشمل المنصات الرقمية، إذ تُنسّق وزارة الدفاع مع شركات التكنولوجيا المحلية لمراقبة الحسابات التي تُتّهم “بخدمة العدو” أو “بالتأثير السلبي على الجبهة الداخلية”.
ويُحظر على الصحفيين نشر أي صورة أو موقع جغرافي للقصف إلا بعد اعتمادها رسميًا، وتُستخدم بذلك آلية “إدارة الانطباع” بدل المنع المباشر.
وفي الحرب الأخيرة بين إسرائيل وغزة، تصاعد دور الرقابة حتى شمل تفاصيل سقوط الصواريخ، وأماكن القتال، والخسائر البشرية في صفوف الجيش، وحتى صور الدمار داخل المستوطنات. كما أصدرت الرقابة تعليمات رسمية بمنع التغطية المباشرة دون تصريح مسبق.
وفي عام ٢٠٢٤، أقرّ الكنيست قانونًا جديدًا مكّن الحكومة من إغلاق وسائل إعلام أجنبية ومصادرة معداتها إذا اعتُبرت “تهديدًا أمنيًا”، وهو ما استُخدم لاحقًا ضد مكتب قناة الجزيرة.
بهذا، تحوّلت الرقابة العسكرية من أداة ضبط أمني إلى أداة سياسية تتحكم في الرواية الرسمية وتُسكت الأصوات المعارضة، وتمنح الحكومة سلطة مطلقة على تدفّق المعلومة داخليًا وخارجيًا.
ما تقدمه إسرائيل هو نموذج لرقابة مؤسسية متقنة تحت غطاء قانوني، تُمارس باسم الأمن القومي، لكنها تُخفي في جوهرها إدارة شاملة للرواية الرسمية، بحيث لا يسمع العالم إلا ما يُراد له أن يسمع، ولا يرى إلا ما تسمح به المؤسسة العسكرية.
وهكذا تتحول حرية الإعلام في إسرائيل إلى أداة تعبئة وطنية لا وسيلة مساءلة، رغم أن الدولة تُقدّم نفسها للعالم باعتبارها “واحة ديمقراطية”.
ثانيًا: أوكرانيا، وحدة الرسالة تحت الأحكام العرفية

عندما اندلعت الحرب في أوكرانيا في فبراير ٢٠٢٢، أعلن الرئيس فولوديمير زيلينسكي الأحكام العرفية، وجرى دمج القنوات الوطنية الرئيسة في بثّ موحّد تحت اسم “United News – ماراثون الأخبار الموحدة”، بحيث تقدّم جميع القنوات رسالة إعلامية واحدة على مدار الساعة.
الهدف الرسمي كان “مواجهة التضليل الروسي وتوحيد الخطاب الوطني”، لكن ذلك ترتّب عليه عمليًا إلغاء التعددية الإعلامية مؤقتًا لصالح خطابٍ موحّد تسيطر عليه الحكومة.
خلال الحرب، صادرت الدولة بعض القنوات المعارضة أو المملوكة لرجال أعمال مرتبطين بروسيا، وأصدرت قوانين تُلزم المؤسسات الإعلامية بالتنسيق مع المجلس الوطني للبث والإعلام قبل نشر أي مواد حساسة، مع فرض غرامات وسحب تراخيص للمخالفين.
وفي الوقت ذاته، دعمت الحكومة مبادرات رقمية مثل منصة “StopFake” للتحقق من الأخبار ومكافحة الدعاية الأجنبية، كما أطلقت برامج تدريبية للصحفيين لتعزيز “الوعي الإعلامي الوطني”.
النموذج الأوكراني يوازن بين الرقابة والتعبئة، فهو لم يُغلق المجال بالكامل أمام الإعلام المستقل، بل حدّد له حدودًا وطنية واضحة في زمن الحرب.
المعركة هناك لم تكن فقط على الأرض، بل أيضًا في الفضاء الرقمي، حيث استخدمت كييف وسائل التواصل كسلاحٍ لتقوية المعنويات وحشد الدعم الدولي.
إنه نموذج لـ”التعبئة الإعلامية المنظمة” التي تُدار سياسيًا، لكنها لا تنفي وجود هامش للمهنية؛ توازن هشّ لكنه فعّال في ظروف الحرب.
ثالثًا: روسيا، الرقابة الشاملة والحرب المعلوماتية

منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا عام ٢٠٢٢، فرضت روسيا واحدة من أوسع منظومات الرقابة الإعلامية في التاريخ الحديث.
ففي مارس من ذلك العام، أقرّ البرلمان قوانين الحرب الإعلامية التي تُجرّم “نشر معلومات غير موثوقة عن الجيش” أو “تشويه سمعته”، بعقوبات تصل إلى السجن ١٥ عامًا.
وشملت الإجراءات إغلاق عدد من وسائل الإعلام المستقلة مثل نوفايا غازيتا ودوجد (TV Rain)، إضافة إلى حجب مواقع غربية كـ BBC وDW، مع إنشاء منظومة إلكترونية ضخمة تشرف عليها هيئة “روسكومنادزور”، تختص بمتابعة المحتوى وحجب المواقع وتتبع الحسابات الرقمية.
لم تكتف موسكو بالحجب، بل طورت نظامًا متكاملًا لإدارة المعلومات يعتمد على التعبئة الإعلامية الوطنية، حيث جرى توحيد الخطاب الرسمي عبر القنوات الحكومية والبرامج الحوارية الكبرى، وربط “الالتزام الإعلامي” بمفهوم “الولاء الوطني”.
كما توسعت الدولة في إنشاء وسائل بديلة موجهة للخارج مثل RT وسبوتنيك، لتقديم رواية روسية مضادة لما تسميه “الهيمنة الإعلامية الغربية”.
وبرّرت الحكومة هذه السياسات بأنها إجراء دفاعي لحماية الجبهة الداخلية من الحرب المعلوماتية التي تستهدف روسيا سياسيًا وثقافيًا واقتصاديًا.
في المقابل، ترى المؤسسات الغربية أن هذه الرقابة تُمثّل قمعًا للحريات، لكن الواقع يُظهر أن روسيا نجحت في تحويل المعلومة إلى جبهة قتال مستقلة، تضبط من خلالها تدفق الأخبار وتمنع الانقسام الداخلي، وتستثمر الإعلام كأداة تعبئة داخلية وتأثير خارجي في آنٍ واحد.
وهكذا، تُقدّم التجربة الروسية نموذجًا متكاملًا لـ”إدارة المعلومة كسلاح”، قائمًا على السيطرة المؤسسية، والانضباط في الخطاب، وربط الإعلام بالأمن القومي مباشرة.
ورغم الجدل حول حدود هذه الرقابة، إلا أن التجربة أثبتت أن من لا يمتلك أدوات التحكم بالمعلومة في زمن الحرب يُهزم بها قبل أن يُهزم في الميدان.
رابعًا: نماذج حديثة من الرقابة
الميدانية، قطر ونظام أبوظبي

١. قطر، السرية الأمنية بعد الهجوم الإسرائيلي

في سبتمبر ٢٠٢٥، حين شنّت إسرائيل هجومًا جويًا على الدوحة استهدف شخصيات مرتبطة بحركة حماس، تعاملت السلطات القطرية مع الموقف بمنهجٍ أمني صارم.
ففي الساعات الأولى، قُيّد وصول وسائل الإعلام الدولية، بما فيها قناة الجزيرة، إلى موقع القصف، إلى أن استكملت الأجهزة الأمنية القطرية عملياتها الميدانية وتقييم الأضرار.
ولم يُسمح بالتغطية إلا لاحقًا من خلال جولات منسّقة بإشراف الجهات الرسمية، مراعاةً للاعتبارات الأمنية والدبلوماسية.
هذا الإجراء لا يُعدّ استثناءً، بل ممارسة مألوفة في الدول التي تواجه حوادث سيادية حسّاسة.
فحين تتقاطع المعلومة مع الأمن القومي، تُقدَّم السرية على الشفافية، حتى لدى الأنظمة التي ترفع شعارات حرية الصحافة.
وتتكرر هذه المعادلة في دولٍ أخرى حين تصبح الصورة أداة ضغطٍ سياسي أو أمني.
٢. نظام أبوظبي، الصورة قبل الحقيقة

يتعامل نظام أبوظبي مع الإعلام بعقلية رقابية صارمة حين يتعلق الأمر بأمنه السياسي أو صورته أمام العالم.
فعند وقوع حوادث مثل حريق مستودع مصفّح في أبوظبي أو غيرها من الكوارث الصناعية، تتحكم السلطات بشكلٍ كامل في الوصول الميداني إلى مواقع الحوادث والتحقيقات.
ولا يُسمح لأي وسيلة إعلامية دولية أو محلية بالتغطية الميدانية أو التحقيق إلا بعد الحصول على إذنٍ مباشر من الجهات الرسمية، وغالبًا ما يُمنح هذا الإذن حصريًا لوسائل إعلام خاضعة لتوجيه النظام أو شريكة ضمن ما يسمى “التعاون الإعلامي المعتمد”.
تستند هذه السياسة إلى أربع ركائز أساسية:

١. التحكم الكامل بالوصول، فلا يُسمح لأيّ صحفي بالدخول دون تصريح رسمي.
٢. إدارة السردية عبر القنوات الرسمية، حيث تُعدّ الصور والمقاطع وتُنشر بما يتوافق مع ما يريده النظام.
٣. الانتقائية في التعامل، إذ تُمنح التغطية للقنوات الموالية ويُمنع الإعلام المستقل من الاقتراب.
٤. الأولوية للصورة الدولية على الحقيقة، حيث تُقدَّم المصلحة السياسية على حق الجمهور في المعرفة.
بهذه المنهجية، يتحوّل نظام أبوظبي، الذي يموّل ويدّعي الدفاع عن حرية الإعلام في الخارج، إلى نموذجٍ مغلق داخليًا يُعيد صياغة المشهد كما يشاء، ويُخفي أيّ مشهدٍ قد يُضعف صورته الدولية.
وهذا بالضبط ما يستخدمه اليوم في حملاته ضد السودان: المال، والصورة، والرقابة الانتقائية التي تُصاغ بعناية لتبدو كأنها “حقائق ميدانية”، بينما هي في جوهرها دعاية سياسية مموّلة.
غير أن ما نراه من نظام أبوظبي يتجاوز ذلك بكثير، إذ يدير حملاتٍ إعلاميةً مموّلة، ويمارس دعمًا مباشرًا لميليشيات محلية وتغذيةً ممنهجةً للنزاعات في السودان، وليبيا، واليمن، ودول إفريقية أخرى، مستخدمًا الإعلام كواجهةٍ ناعمة لمشروعاتٍ تدميريةٍ صلبة ومموّلة، تهدف إلى تنفيذ أجنداته الخفية وتوسيع نفوذه الإقليمي على حساب استقرار المنطقة.
وحين تمتلك السلطة الثروة والنفوذ، يكون أول ما تفعله عند الأزمات هو إغلاق الكاميرا المستقلة، ثم صياغة الرواية الرسمية تحت شعار “المصلحة الوطنية”.
وهكذا تتشابه الممارسات: تُمنع الحقيقة أولًا، ثم تُقدَّم الصورة المنتقاة للعالم على أنها “الخبر الموثوق”، لتتحول المعلومة من وسيلة وعي إلى أداة تضليلٍ منظّم تُدار من غرفٍ محصّنة بالمال والنفوذ.
خامسًا: الانتقال إلى الحالة السودانية

على ضوء ما سبق، يتضح أن الرقابة الإعلامية ليست حكرًا على الدول الشمولية، بل قاعدة سلوكٍ تتبنّاها الأنظمة كافة حين تُهدَّد صورتها أو مصالحها، لتبرّر تدخلها تحت شعار “حماية الأمن القومي” أو لتنفيذ أجنداتها التخريبية، كما يفعل نظام أبوظبي في المنطقة.
إنّ النماذج السابقة من إسرائيل وروسيا وأوكرانيا تُظهر بوضوح أن الرقابة الإعلامية لم تعد استثناءً ظرفيًا، بل تحوّلت إلى أداة سيادية تُستخدم لحماية الرواية الرسمية، ولتثبيت النفوذ السياسي والأمني داخليًا وخارجيًا.
وإذا كانت تلك الدول قد استطاعت، كلّ بطريقتها، أن توحّد خطابها الإعلامي وتمنع الاختراق المعنوي، فإن السودان اليوم يقف في قلب الميدان نفسه، يواجه حربًا مركّبة تجمع بين الميدان العسكري والمعركة السردية، وتُدار من الخارج بالمال والإعلام والميليشيات.
هكذا نرى أن الرقابة لم تعد خيارًا طارئًا، بل معركة على الوعي والهوية والسيادة الوطنية.
وما بين تضليل الخارج وصمت الداخل، يبقى السودان مطالبًا بإعادة تعريف معركته الإعلامية، وتأسيس منظومة رقابية وطنية صلبة تحفظ السيادة، وتواجه الأكاذيب والتضليل بمهنيةٍ، وانضباطٍ، ووعيٍ وطنيٍّ جامع.
خاتمة الجزء الأول

وهكذا، يتّضح أنّ معركة المعلومة ليست حكرًا على القوى الكبرى، بل قدرُ كلّ دولةٍ تُحاصَر أو تُستهدف في وعيها ووجودها.
وإذا كانت إسرائيل وروسيا وأوكرانيا قد حسمت أمرها ببناء منظومات رقابة وسيطرة إعلامية تحمي جبهتها الداخلية، فإنّ السودان اليوم بحاجة إلى أن يفعل الشيء نفسه وفق رؤيته الوطنية، وبما ينسجم مع خصوصيته وتحدياته.
فالحرب التي تُخاض ضدّه ليست في الميدان وحده، بل على الوعي والهوية والانتماء.
في الجزء الثاني، رسالة إلى وزير الإعلام:
لقد آن الأوان أن يتحوّل الإعلام من هامشٍ إداري إلى جبهةٍ وطنية متقدّمة. فالحرب على السودان ليست عسكرية فقط، بل حربٌ على الوعي والهوية، تُدار بالكلمة والصورة كما تُدار بالبندقية.
المطلوب اليوم ليس تنظيرًا ولا شعارات، بل إطارٌ تنظيمي وإعلامي متكامل يقود معركة الوعي بوعيٍ وطنيٍّ موحّد، ويجعل من الإعلام درعًا سياديًا يحمي الوطن بدل أن يُستغل لاختراقه.
آن أوان أن يكون الإعلام على قدر الدم والضحايا التي نزفها أهلُنا في الميدان. لا يريد المواطن اليوم إعلامًا صامتًا أو خاضعًا، بل إعلامًا يُعبّر عن تضحيات الشعب ويعكس حقيقة حرب الكرامة التي يخوضها السودانيون دفاعًا عن أرضهم وكرامتهم. لقد دفع المواطنون أثمانًا باهظة، وحان الوقت لأن يروا إعلامًا يرتقي إلى مستوى تلك التضحيات، لا إعلامًا يكتفي بالصمت أو التبرير.
في المقال القادم سنضع الكرة في ملعب وزارة الإعلام. سنتناول التحديات الراهنة وخطوات التصويب ثم نسأل: هل تمضي الوزارة ورموز الإعلام إلى المبادرة والقيادة أم يلتحقون بصفّ الصامتين فيعمّقون الأزمة ويزيدون الجرح نزفًا؟

Exit mobile version