أمجد فريد
تفشي انتهاكات ميليشيا “الدعم السريع” وانتشارها بشكل متشابه في جميع أنحاء السودان، وضد مختلف فئات شعبه، يكشف زيف الادعاءات التي تحاول الميليشيا وحلفاؤها ترويجها بشأن تمثيلها لأي هوية عرقية أو جهوية محددة في سياق البحث عن مبررات لاستمرار حربها ووجودها في الساحة السياسية. أجندة الميليشيا في هذه الحرب ليست ذات جذور اجتماعية تخص فئات سودانية بعينها، بل هي محض سعي إلى الهيمنة والسيطرة على السودان لتحقيق مطامع ذاتية وإقليمية. ولكن خطورة الاستسلام لترويج هذا الخطاب والسردية الإثنية، والتي تستغلها “قوات الدعم السريع” بكثافة لتبرير حربها والتجنيد الإثني للمقاتلين في صفوفها، تتجاوز بكثير إطار الصراع الحالي. فبجانب إسهامها في زيادة سفك الدماء وتدمير البنية التحتية، وتعقيد جهود وقف الحرب وجعلها أكثر صعوبة، تساهم هذه السردية في صناعة شروخ عميقة في النسيج الاجتماعي السوداني على المدى الطويل، وهو ما قد تستمر آثاره السلبية لعقود قادمة. إن من يسعى إلى وقف الحرب وإنهاء معاناة الشعب السوداني بشكل صادق وحقيقي لا يمكن أن يتبنى أو يدعم ترويج مثل هذه السردية. الميليشيا لا تمثل إلا نفسها، ولا تسعى إلى غير تحقيق مصالح قادتها وحلفائهم والداعمين الخارجيين الذين يقفون خلفهم. ولا يتحمل غيرهم وزر الجرائم التي ترتكب في سبيل تحقيق هذه المصالح والأجندات.
لقد تناول الفيلسوف والاقتصادي الهندي المعاصر الحائز على جائزة نوبل، بروفيسور أمارتيا سن، مخاطر السياسات المبنية على الهوية. حيث يتم استخدامها لتجاوز وتجاهل المعضلات الاقتصادية والاجتماعية الأخرى والتي تكون أكثر إلحاحا في تأثيرها على حياة الناس بشكل مباشر. وهو ما نجد أنه يتم بامتياز حاليا في السودان، حيث يتم استخدام الخطاب الإثني للمزايدة السياسية وكأحد أدوات التغطية على الجرائم والانتهاكات المادية المباشرة التي يتم ارتكابها ضد السودانيين بمختلف هوياتهم.
وأشار سن أيضا إلى أن هذه الهويات هي بطبيعتها متعددة ومتداخلة، وأنه لا يمكن حصرها والنظر عبرها إلى رؤية واحدة للعالم، محذراً من مغبة اختزال الأفراد والمجموعات في أصولهم الإثنية. وهو ما ذهب إليه أيضا فرانسيس فوكوياما في تناوله للتحديات التي تفرضها السياسات الهوياتية الإثنية، والتي يتم استخدامها على الأغلب لتعميق الانقسامات المجتمعية من خلال إعطاء الأولوية لهويات مجموعات محددة على حساب الأطر الشاملة الأوسع نطاقا (وهو ما يحدث أيضا بامتياز حاليا في السودان)، وتبنى فوكوياما بدلا من ذلك إعادة تعريف الانتماء الوطني على أساس مبادئ جامعة مثل العدالة والمساواة واحترام سيادة القانون، بدلاً عن الهويات الإثنية التي يتم تسييسها للقفز على هذه المبادئ.
إن السياسات المبنية على الهوية بشكل منفرد وأساسي، والتي يتم استخدامها في إطار الابتزاز السياسي الداخلي والخارجي، إذا استمرت في الهيمنة دون مواجهتها وتعريتها، فإنها تحوّل الاختلافات الطبيعية في المجتمعات إلى مصدر دائم للنزاعات. وعلى الرغم من سهولة تسويق هذه السياسات الهوياتية للجمهور، فإنها ليست سوى ملاذ مريح يهرب إليه السياسيون العاجزون عن مواجهة الأسئلة المادية التي تهم الناس حول معيشتهم، وأمنهم، وسلامتهم، فيلجأون إلى محاولة كسب التأييد الجماهيري بالهروب إلى تبني الشعارات الهوياتية والسياسة الإثنية، بدلاً من العمل على إنتاج برامج أو تبني أفكار عملية ذات انعكاسات إيجابية على حياة الناس. وفي حين أنه لا يخدم هذا النهج إلا المصالح الذاتية للساسة وطموحاتهم الجامحة وشبقهم نحو السلطة، فهو أيضاً يتجاهل ويعمق الكوارث التي تُحيق بجماهيرهم وشعوبهم، وما يحدث في السودان من كوارث وجرائم ومأسٍ بشكل يومي لا تلقى اهتماماً من الطبقة السياسية، إلا بمقدار استعمالها في التدافع السياسي، هو أكبر دليل على ذلك. وليس من المستغرب أن هذه الأطراف نفسها التي تروج لسردية الحرب الإثنية في السودان وتتماهى الآن مع جرائم “الدعم السريع” هي نفسها التي أشار إليها المبعوث الأممي السابق للسودان فولكر بيرتس في تقريره بتاريخ 20 مارس/آذار 2023 لمجلس الأمن، وهو الأخير قبل اندلاع الحرب في وصف المشاركين في العملية السياسية التي سبقت الحرب وربما أدت إليها بأنهم يسعون ببساطة إلى ضمان مشاركتها في الحكومة المقبلة، بدلاً من متابعة أي تحول ديمقراطي.
وقد أدى تجاهل الانتقادات لتلك العملية السياسية حينها إلى اندلاع الحرب، والآن لا تستنكف هذه الأطراف نفسها التي كانت تشد من أزر تلك العملية، في تبني الشعارات والسرديات التي تساهم في زيادة حدتها وتطويل أمدها. وفي الحالة السودانية، يبدو الدور المدمر للسياسة الإثنية واضحا بشكل خاص حيث استغله النظام المخلوع بقيادة عمر البشير وعمل على تسليح الهويات الإثنية لتعزيز قبضته على السلطة عبر ترويج سرديات “نحن مقابل هم”، معمقاً الشروخ الاجتماعية التي عمل على الاستفادة منها في حشد التأييد لنظامه، ولكنه كان مجرد تأييد سطحي وغير مستقر ولم يصمد أمام مد ثورة ديسمبر التي أسقطته.
وإذا لم تتم مواجهة الخطاب الإثني المخادع الذي تتبناه ميليشيا “قوات الدعم السريع”، فإن السودان قد يجد نفسه غارقًا في دائرة لا تنتهي من النزاعات والانقسامات. والتصدي لهذه السردية يتطلب جهدًا مشتركًا من الجميع، ولكنه يتطلب الوعي به وبزيفه وخطورته في المقام الأول. فهذه السياسات الهوياتية الإثنية لا تختلف في شيء عن الأيدولوجيات العقدية التي استخدمت الدين لتغييب الجماهير وابتزاز عاطفتها العقائدية لخدمة أغراض سياسية مغايرة.
وهو الأمر الذي عانى من آثاره السودانيون على مدى عقود طويلة من حكم الإخوان المسلمين الذين أقاموا صرحاً للفساد والاستبداد لم تهدمه سوى هبة الشعب السوداني في ثورة ديسمبر 2018. إن الحديث عن أن هذه الحرب هي في صميمها ضد ثورة ديسمبر وما رفعته من شعارات وطنية نبيلة لا يمكن أن يكون صادقاً دون أن تتم تعرية ومواجهة السرديات والتحركات السياسية التي تتعارض مع شعارات هذه الثورة وتسعى لخدمة أجندات خارجية وتحقيق طموحات ذاتية على حساب شعب بأكمله. كما أن نزع الإثنية عن حرب السودان، ليس ضرورة فقط لإيقاف الحرب، بل هو ضرورة وجودية لبقاء السودان والمحافظة على بقائه كشعب وأمة.