فيما أرى
عادل الباز
(1)
قدمت شركة “زين” يوم الأربعاء الماضي أمسية ثقافيَّة تضافُ لمُساهماتها المُتصلة لإثراء الحقل الثقافي برعايتها لليالي والمُنتديات والإصدارات، وإضافتها المُشرقة للثقافة السُّودانيَّة، برعاية جائزة الطيِّب صالح للإبداع الكتابي. ساهمت “زين” بتمويل ورعاية أجمل إصدارات هذا العام “رمالٌ في عيوني” للكاتبة إنكو ناجي.
ازدانت قاعة الصداقة في ذلك المساء بعالم جميل، عالم استلَّت فيه “إنكو ناجي” أجمل ما في ثقافتنا وفنوننا، وقدَّمته لتكحِّل أعيُننا بالرِّمال وهي تحفر في جوف صحارينا وبوادينا لتهدينا أجمل الحكايات والطقوس والأشعار.
في تلك الليلة قدَّمت “ناجي” كتابها: sand on my eyes “رمالٌ على عيوني”. كحَّلت تلك الشقراء عينيها بمشاهدة جمال الطبيعة والناس، وصاغت مُؤلفها من مادة حيَّة سهرت عليها بنفسها ونقَّبتُ عنها في الصَّحاري. سافرت “ناجي” لتلك الأصقاع قاطعة 33 ألف كيلومتر في سُهُول كردُفان وتخوم جبال النوبة، لتتعلَّم وتكتشف عوالم مجهولة حتى بالنسبة لنا.
(2)
قالت “ناجي” وهي تقدِّم كلمتها في الحفل البهي بقاعة الصداقة: «كُنتُ أعملُ مع منظمة ألمانيَّة في الأبيِّض قبل عدَّة سنوات، وحين انتهت فترتي وحان وقت مغادرتي للسودان، طويتُ أوراقي وقرَّرتُ الرُّجوع إلى أهلي، ولكنني فجأة وأنا على بُعد ساعات من المغادرة، قرَّرتُ البقاء هنا في الأرض التي جذبتني بجمالها وطيبة أهلها».
وأضافت “ناجي”: «لم يكن لديَّ مسكن فقرَّرتُ الذهاب لأولئك البُسطاء الذين عرفتُهُم، لأفعل كما يفعلون. قال كثيرون إنَّ إنكو ناجي إما أنها جنت أو أنها جاسوسة». سألتها بعد الحفل: أيُّهُما تختارين إذا كان ولابُدَّ؟! فقالت: «أنا فعلاً مجنونة بحُب أولئك الناس».
(3)
“ناجي” طرازٌ فريد من البشر، الذين إذا أحبوا شيئاً أخلصوا له وأنفقوا لأجله أغلى سنوات حياتهم. “ناجي” وهبت خمس سنوات من عُمرها لمؤلفها “رمال في عيوني”، وهو عبارة عن مُؤلفٌ ثقافي ضخم يقع في 870 صفحة مُزيَّنٌ بصورٍ بديعة، يفيض بالحِكَم والأمثال الشعبيَّة التي التقطتها المُؤلفة من أفواه قائليها.
(4)
في ليلة الأربعاء شاهدنا فيلماً وثائقياً عن تجربة كتابة مُؤلف من أرض المواقع، وليس مُستخرجاً من بطون كُتُب التاريخ العتيقة. كان يمكن لـ“ناجي” الجُلوس في أفخم مكتبات الغرب لتخرج بكتاب ميِّت عن تلك البقاع، ولكنها آثرت أن تُخرِجَ مُؤلفاً ضاجاً بالحياة من خلال مُعايشتها للناس لرُؤية ثقافاتهم وعاداتهم حيَّةً تشكِّل حيواتهم. تعرَّفت “ناجي” على سُبُل كسبهم للعيش، وسمعت غناءهم ورقصت على إيقاعاتهم، ومن هُنا تأتي فُرادة ما أقدمت عليه من عمل جدير بالاحتفاء.
(5)
استوقفني في الفيلم إفادة بعض المُبدعين تعاونوا مع “ناجي” وطافوا معها تلك الصَّحاري حين قالوا: «كنا نعتقد أنفسنا مثقفين وعلى دراية بالتراث السُّوداني، فإذا بنا نكتشف من خلال هذا العمل أننا نجهل كثيراً من جوانب ثقافتنا وتراثنا».
وجدتُ في المعرض المُصاحب للاحتفال بعضاً من الحِكَم والأمثال أدهشتني لبساطتها وعُمقها، مما أكد لي جهلنا وعدم عنايتنا بالتعرُّف على ثقافات السُّودان المتنوِّعة.
(6)
الاحتفال حظِي بحُضُور كثيف من المُثقفين وأُخرج بشكلٍ جميل، وأضافت له السنغرافيا بهاءً وألقاً خاصاً. كانت ليلة لا تشبه ليالي الخُرطوم الهامدة ثقافياً الضاجَّة بالكثير من الثرثرة على النيل.
شكراً “زين”… استمتعنا بعالم جميل وخرجنا ونحن أكثر إيماناً بجمال ثقافتنا المدفونة في رمال الصَّحاري، وقدرنا أن نراها من خلال عيون الآخرين.
(7)
شكراً “ناجي”.. وعجباً لتلك الصَّحاري تهدينا الذهب وتفتح أعيُننا على كنوز من نفائس ثقافتنا وتعيد اكتشافنا لأنفُسِنا عبر الصُّور والأمثال والإيقاعات والأغاني المدفونة في جوفها، ما أحوجنا لمُنقبين ثقافيين أمثال “إنكو ناجي”