بروفيسور أحمد مجذوب أحمد
إن توفير التمويل لمشروعات الإعمار والنهضة واتخاذ السياسات المناسبة تمثل التحدي الرئيس الذي ينبغي أن تعمل من أجله وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي وكل مؤسسات الدولة، وأن تتضافر معها جهود الخبراء والعلماء، وهذا بلا شك يمثل التحدي الأساس الذي ينبغي التخطيط له بمنهج غير تقليدى، لأن الطرف الاستثنائيّ الماثل يستدعي التفكير خارج الصندوق ، بحيث تبحث وتعمل الوزارة على تبني الوسائل والأدوات المالية التي تمكنها من توفير هذه الموارد.
ومما تجدر الإشارة إليه أن ورقة وزارة المالية المقدمة للمؤتمر تناولت مقترحات لموازنة عادية لتمويل أوجه الانفاق الحكومي النمطي للعام المالى 2025 فى ظل التراجع الحاد فى الايرادات، والورقة بهذا الوصف لم تتضمن أي ترتيب لتخصيص موارد لبرامج الأعمار والنهضة، وربما أجلت الورقة ذلك ليكون أحد مخرجات وتوصيات المؤتمر، وهذا يستدعي من الجميع المشاركة فى تقديم الحلول.
وفى ظل الظروف القائمة قد يسأل المهتمون – وهم محقون فى ذلك – هل يمكن توفير الموارد المالية اللازمة لتحقيق الإعمار والنهضة الاقتصادية ؟
الإجابة التقليدية أنه لا مستحيل تحت الشمس (عند توفيق الله تعالى) إذا توفرت العزيمة والإرادة والتخطيط الدقيق للشأن الاقتصادي والمالي، عندها لن تعجز القيادة الاقتصادية عن إيجاد منافذ ومصادر ووسائل للتمويل المحلّي والأجنبي، وتجارب الدول فى ذلك كثيرة.
وأول ما تحتاج إليه الوزارة أن تحشد الدعم والتأييد السياسى للخطط المطروحة، وأن تنطلق من القاعدة العريضة المناصرة والداعمة للقوات المسلحة، التي تمثلت فى جموع المستنفرين المتشوقة لتحرير الوطن الذين نذروا أنفسهم فداء له ، فهيأوا بذلك قاعدة قوية لمساندة برامج الدولة نحو الإنتاج والإعمار، فتحتاج الحكومة لخطاب خاص لهذه القواعد، بأن معركة استقلال الوطن تستكمل بعد التحرير بتحقيق الإعمار والنهضة ومن ثم اعتماده على موارده واكتفائه فى حاجاته الأساسية وقدرته على إبطال هدف الأعداء فى تدمير الاقتصاد وإفقار الشعب.
المدخل الرئيس لهذا الأمر هو تحقيق وإحكام التنسيق الكامل بين وزارات القطاع الاقتصادي وبنك السودان المركزي فى الاتفاق على الأهداف الكمية والسياسات اللازمة لتنفيذها. لأن فى هذا التناغم رسالة تطمين سلامة الأجهزة ومعرفتها بهدفها وعملها من أجله ، وهذا التنسيق ينبغي أن يستصحب منظمات القطاع الخاص (المالي والمصرفي والانتاجي) لأنها ستكون رأس الرمح فى ذلك.
ويرتبط بتهيئة البيئة الاقتصادية أن تتبنى الوزارة سياسة لتوسيع دور القطاع الخاص فى إدارة وتقديم بعض الخدمات والأنشطة والأعمال ، لأنها هى السبيل الأعلى كفاءة والأقل تكلفة فى ذلك ، خاصة خلق فرص جديدة فى التوظيف لأنه لا ينشئ التزامات جديدة على الحكومة ، فى ظل تراجع الإيرادات ، يضاف لذلك أن تجارب الدولة أظهرت كفاءة القطاع الخاص فى ذلك ، وتوسعت تجارب الدول في تقليص دور الجهاز الحكومي وتوسيع دور القطاع الخاص ، ليتجاوز تقديم الخدمات وبعض البنى التحتية وإنما ليشمل حتى بعض الأنشطة والأعمال الأمنية. ولابد من وضوح واستقرار هذه السياسة وتأمينها وحمايتها بالتشريعات اللازمة حتى يتحقق الاطمئنان للمستثمر المحلي و الأجنبي.
ولن أناقش هنا قضايا توسيع المظلة الضريبية وترشيد الصرف الجاري ومراعاة الأولويات، لأن ورقة المالية تناولتها، فقط أقترح فرض ضريبة جديدة للاعمار على المقتدرين داخل السودان والسودانيين العاملين بالخارج ، تتفاوت فئتها بحسب تفاوت الدخل، مهما قلت لترسيخ الإحساس بالمشاركة والمسؤولية الوطنية، و أركز هنا بأن تتجه الحكومة للحصول على موارد غير عادية أو من مصادر خارجية بأي صيغة من صيغ التمويل ، بسبب تراجع الموارد المالية التقليدية، لتراجع الناتج المحلي وتدهور قطاعات الإنتاج بسبب الدمار الذى أصاب الاقتصاد بفعل التمرد ومعاونيه.
*التوسع فى منح امتيازات الإنتاج والتشغيل:*
لا شك أن استقطاب الموارد الخارجية هو أحد أهم مصادر ووسائل التمويل فى ظل الظروف الراهنة ، ومن أبواب ذلك حسن استغلال وتشغيل وتطوير الموارد الاقتصادية غير المستغلة، مثل: استكشاف النفط والتعدين والزراعة والثروة الحيوانية والسياحة ،،،،،الخ، بشرط أن تضع وتجيز الوزارة سياسات الاستغلال والانتفاع بهذه الموارد ، بحيث لا تكون مجالا للتصرفات الفردية ، وأن تتصف بالاستقرار والوضوح والاحترام والتنفيذ من كل المعنيين فى الجهاز الحكومي ، بإصدار التشريعات الضرورية وإقامة الجهاز المختص بذلك وبإعتماد الأسس والمعايير الحاكمة للعمل، ومن ثم تتخير الحكومة المشررعات المخصصة للاستغلال والانتفاع المشترك مع الشركات والحكومات الخارجية (بنسبة فى الإنتاج او أجرة او الاثنين معاً) وفق معايير موضوعية تنافسية وبشروط عادلة ، على أن يدفع جزء من هذه الرسوم أو الأجرة مقدماً، كما يمكن أن تستخدم الحقوق الآجلة (المستقبلية) لهذه الامتيازات كوسيلة ضمان مقابل الاقتراض الخارجي من ذات الجهات المستثمرة أو بواسطتها من مؤسسات التمويل.
*تحديد وتجهيز ملفات مشروعات الاعمار:*
يعتمد النجاح فى استقطاب التمويل على جاهزية المشروعات من ناحية مجالها وحجم تمويلها والعائد المتوقع منها وشكل العلاقة التعاقدية التى يتم بها تشغيل وإدارة المشروع ، وهذا الأمر يستلزم عملاً مشتركاُ من وزارة المالية ومؤسسات القطاع الخاص وبالتعاون مع الأجهزة المختصة لتجهيز ملفات تفصيلية بمشروعات الإعمار فى البنى التحتية أو فى المشروعات الإنتاجية.
ومن ثم قيادة برنامج تواصل مع الدول الصديقة والمؤسسات المالية (المستقلة) فى المحيط الإقليمي والدولي بحيث يشمل التحرك الحكومات والقطاع الخاص أيضاُ. والاستفادة من المؤسسات الناشئة والتابعة للتجمعات الاقتصادية الوليدة مثل تجمع البريكس (BRICS) ، ونشير فى هذا السياق لأهمية تطوير وترقية علاقات التعاون المستمرة مع دول الصين والهند وروسيا ، بتسوية القضايا العالقة خاصة مع الصين.
وأن تطرح الوزارة كافة خيارات التمويل مع هذه الجهات.(BOOT) (PPP) أو على سبيل الاستثمار الأجنبي المباشر (FDI) أو سياسة المشغل الخارجي (out sourcing policy)
فحشد الموارد المالية اللازمة لتنفيذ النهضة بابتدار أدوات تمويل جديدة هو السبيل البديل للعقبات المتوقعة من مؤسسات التمويل الدولية المسيسة (WB) التي أصبحت أدوات للاستعمار الحديث.
وأقترح على الوزارة تأسيس صناديق إعمار داخلية بالعملة المحلية وبفئات متعددة تمكن كل مواطن من المساهمة في تمويل برامج الإعمار ، بحيث توجه حصيلتها لتمويل برامج الإعمار، على أن تلزم الوزارة الجهاز المصرفي بقبول هده الصكوك كضمانات التمويل.
ومن بين الأدوات الفعالة إصدار صكوك التمويل، فهي تجربة عالمية راسخة ، تجاوزت النطاق الداخلي للدول لتصبح داخلية الإصدار عالمية التسويق ، بل وأصبحت لها مؤسساتها المختصة بإصدارها وتسويقها وتوسعت أسواق تداولها.
ويمكن أن تُربط الصكوك لإقامة مشروعات معينة أو تكون صكوكاً عامة غير مخصصة تعطي الوزارة مرونة فى استخدامها في كافة مشروعات الإعمار.
وتتعدد صيغ العلاقة التعاقدية فيمكن أن تتم وفق صيغة المقاولة فى التنفيذ والمضاربة فى التمويل (تجربة صكوك صرح بوزارة المالية عام 2006) وبالتأكيد ستكون وسيلة فعالة في استقطاب مدخرات السودانيين وغيرهم بالداخل والخارج. وقد نجحت كثير من الدول فى طرح صكوك بعملات عالمية (دولار) حيث حقق إعلان طرح الصكوك في جمهورية مصر العربية نسبة 150 % خلال العام 2022 .
ومن المشروعات الواعدة كذلك استغلال سواحل البحر الأحمر بالتوسع فى إنشاء وتشغيل الموانئ التجارية المتخصصة، وفق علاقات مالية تمكن الحكومة من الحصول على الموارد اللازمة للاعمار.
من عناصر نجاح هذه السياسة إعادة الثقة في الاقتصاد السوداني وتنفيذ ما تنص عليه التعاقدات وإعلان وتبني سياسة أن يكسب الجميع من هذه العلاقات الاقتصادية هى الحاكمة للعلاقات الحالية والمستقبلية (win win policy)
أما مشروعات إعمار وتأهيل مشروعات القطاع الخاص فهى محل مقال منفصل إن شاء الله.
إلى أن نلتقى فى مقال آخر نسأل الله أن يبارك الجهود ويشرح الصدور ويلهم الصواب فيتمكن السودان من تحقيق أهدافه وتجاوز عثرته.
اللهم انصر قواتنا المسلحة والمجاهدين واهزم أعداء الوطن من العملاء والمتآمرين .