من زاوية أخرى  قراءة تحليلية في واقع الأمم المتحدة الراهن في ظل النزاعات المسلحة في الشرق الأوسط والقرن الإفريقي: السودان نموذجًا

محمد الحاج

منذ تأسيسها عام 1945 ، حملت الأمم المتحدة على عاتقها مسؤولية حفظ الأمن والسلم الدوليين، ومنعت عبر العقود اندلاع حروب شاملة، وساهمت في تسوية نزاعات إقليمية، ووفرت مظلة قانونية وإنسانية للدول والشعوب. غير أن الواقع الراهن يكشف عن تراجع ملحوظ في فاعلية هذه المنظمة، خاصة في منطقة الشرق الأوسط والقرن الإفريقي، حيث تتوالى الأزمات وتتفاقم النزاعات دون تدخل حاسم أو حلول ناجعة. ويُعد السودان، بما يمثله من موقع جغرافي استراتيجي وبُعد قومي عالمي، نموذجًا صارخًا لانحسار دور الأمم المتحدة، وتحولها إلى مجرد مراقب عاجز عن التأثير في مجريات الأحداث.

في قلب هذا التراجع، يبرز تحكم النظام العالمي الجديد في أدوات الأمم المتحدة، وعلى رأسها مجلس الأمن، الذي بات رهينة لتوازنات القوى الكبرى ومصالحها المتضاربة. فالقرارات التي تصدر عنه غالبًا ما تكون انتقائية، متأخرة، أو غير ملزمة، مما يضعف من قدرة المنظمة على التدخل الفوري والفعال. هذا التحكم لا يقتصر على السودان، بل يمتد إلى ملفات عديدة في الشرق الأوسط، من سوريا إلى اليمن، ومن فلسطين إلى العراق، حيث تتداخل المصالح الدولية وتُشل الإرادة الجماعية في خلق تهدئة تعيد الاستقرار إلى المنطقة.

السودان، الذي يشهد منذ 15 أبريل 2023 حربًا دامية، كان سببها تدخلات خارجية استغلت أطماع قوى سياسية ومليشيا قوات الدعم السريع، بهدف تنفيذ مخطط لتفكيك الدولة السودانية بعد فشلها في السيطرة على السلطة. وقد عملت هذه القوى على إغراق الشعب السوداني في أزمات متعددة، من و أدت احداث نزاعات داخلية إشعال الفوضى الأمنية. وما نراه اليوم من تقارير عن أزمات إنسانية غير مسبوقة، مثل ما يحدث في مدينة الفاشر حتى الآن، من قتل وتشريد، هو نتيجة مباشرة لهذا المخطط التخريبي.

فقد خلفت هذه الحرب أكثر من 20 ألف قتيل، ونحو 15 مليون نازح ولاجئ، وفق تقديرات الأمم المتحدة، بينما تشير أبحاث مستقلة إلى أن عدد القتلى قد تجاوز 130 ألفًا. ورغم هذا الوضع الكارثي، وكل التقارير والدلائل التي تثبت التدخلات الخارجية من قبل دول بعينها، والانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان في السودان على يد مليشيات الدعم السريع، لم تتمكن الأمم المتحدة من فرض هيبتها أو فرض وقف إطلاق النار لدواعي انسانية في المناطق المتأثرة، مثل دارفور، وخصوصًا مدينة الفاشر وما حولها من معسكرات اللاجئين.

كما لم تستطع المنظمة ضمان وصول المساعدات الإنسانية بشكل آمن، أو توفير حماية فعالة للمدنيين. فبعثاتها الميدانية، وإن كانت نشطة في بعض المناطق، تظل محدودة التأثير، وتواجه عراقيل أمنية ولوجستية، نتيجة منع المليشيات فتح الطرق، واستخدامها سلاح التجويع، فضلًا عن نقص التمويل المستمر لنداءات الإغاثة.

هذا الضعف لا يعكس فقط قصورًا في الموارد أو التنسيق، بل يكشف عن خلل بنيوي في آليات اتخاذ القرار داخل المنظمة. فمجلس الأمن، الذي يُفترض أن يكون الذراع التنفيذي للأمم المتحدة في حالات النزاع، يعاني من شلل شبه دائم بسبب نفوذ بعض الدول الكبري علي مجلس الامن لخدمة مصالحها في المنطق وهو امراً بات معلوماً لدي الكثير من المحللين.

وفي حالة السودان، صدرت عدة قرارات تلزم مليشيا الدعم السريع بفتح ممرات آمنة، لكنها لم تلتزم بها، ولم تعبأ حتى بالعقوبات التي فُرضت عليها. مما يكشف ضعف منظومة الأمم المتحدة، وعدم قدرتها على تحقيق أي تقدم تجاه وقف الانتهاكات التي يعاني منها الشعب السوداني، جراء الممارسات الإرهابية والانتهاكات الممنهجة لحقوق الإنسان من قبل مليشيات مدعومة خارجيًا.

واكتفت الأمم المتحدة بإصدار بيانات القلق، وتقديم مساعدات إنسانية محدودة، دون معالجة الأسباب الجذرية التي أدت إلى هذه الحرب الممنهجة على الشعب السوداني.

يشهد الشرق الأوسط والقرن الإفريقي اليوم موجة نزاعات متشابكة، تغذيها هشاشة الأنظمة، التدخلات الخارجية، والصراعات العرقية والدينية، إلى جانب التغيرات المناخية والكوارث الطبيعية. في اليمن، تستمر الحرب منذ عام 2015 بلا أفق للسلام، وفي سوريا، تحولت الأزمة منذ 2011 إلى صراع دولي متعدد الأطراف. أما فلسطين، فتتجدد المواجهات وسط غياب حل عادل، مع تصاعد الانتهاكات في مناطق أخرى، كما في إيران و ما حدث في قطر مؤخر من هجوم بالأمس القريب من دولة الاحتلال الصهيوني متخطية بذلك كل الأعراف الدولية، ما يعكس ضعف المنظومة الدولية في وقف التجاوزات.

اما في القرن الإفريقي، تعاني الصومال، إثيوبيا، وجنوب السودان من اضطرابات مزمنة تهدد الأمن الإقليمي وتنعكس على الاستقرار العالمي. وسط هذا المشهد، تبدو الأمم المتحدة عاجزة عن لعب دور الوسيط النزيه أو القوة الضاغطة، بل أصبحت أحيانًا جزءًا من الأزمة، نتيجة تسييس قراراتها أو اعتمادها على تمويل مشروط من القوى الكبرى.

إن السودان، بموقعه الرابط بين شمال إفريقيا والقرن الإفريقي، وموارده الطبيعية، وتركيبته السكانية، يمثل نموذجًا لفشل المجتمع الدولي في إدارة الأزمات المعقدة. الحرب التي اندلعت في 15 أبريل 2023 لا تهدد وحدة السودان فحسب، بل تنذر بانهيار إقليمي إذا لم تُرفع الضغوط عن القوات المسلحة ويُدعم قيام الدولة السودانية. فالصراع مرشح للامتداد إلى دول الجوار، ما يهدد مصالح دولية متعددة.

لقد ضل تعاطي الأمم المتحدة مع الملف السوداني محدودًا، يقتصر على الجوانب الإنسانية دون معالجة جوهر الأزمة السياسية والأمنية. الحل لا يكمن فقط في إصلاح آليات المنظمة، بل يتطلب إرادة دولية تتجاوز الحسابات الضيقة، وتضع مصلحة الشعوب أولًا. يجب إعادة النظر في تركيبة مجلس الأمن، وتقييد استخدام الفيتو في القضايا الإنسانية، وتعزيز دور الجمعية العامة لاتخاذ قرارات أكثر تمثيلًا.

كما ينبغي دعم المنظمات الإقليمية، مثل الاتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية، وتمكينها من لعب دور أكبر في الوساطة وحفظ السلام. وفي السودان، يمكن البدء بخطوات عاجلة: فرض وقف إطلاق نار شامل، تشكيل لجنة وطنية مستقلة للتحقيق في انتهاكات مليشيا الدعم السريع، بدعم دولي ومشاركة خبراء من الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة، وتوفير ممرات آمنة للمساعدات، ودعم جهود المصالحة الوطنية عبر حوار سوداني شامل.

يجب الضغط على مليشيا الدعم السريع لتسليم عتادها وفق شروط الجيش السوداني، ثم الانخراط في مفاوضات بضمانات دولية. ويتطلب ذلك تنسيقًا بين الأمم المتحدة والدول المؤثرة مثل مصر، الجزائر، السعودية، وجنوب إفريقيا، إلى جانب توفير تمويل كافٍ لجهود الإغاثة وإعادة الإعمار.

واقع الأمم المتحدة اليوم يعكس أزمة ثقة وفاعلية، لا تُعالج إلا بإصلاحات جذرية وإرادة سياسية صادقة. فالمنطقة لا تحتاج إلى بيانات قلق، بل إلى تدخلات حاسمة توقف الحروب وتفتح آفاق السلام والتنمية. والسودان، بما يمثله من أهمية استراتيجية، يجب أن يكون في صلب هذه الجهود، لا على هامشها. فاستقراره هو استقرار للمنطقة، واختبار حقيقي لقدرة الأمم المتحدة على استعادة دورها التاريخي وتحقيق رسالتها في بناء عالم أكثر عدلًا وأمنًا.

Exit mobile version