أبوبكر محمد أحمد إبراهيم
لا شك أن القول بأن الإسلاميين طرف في الحرب الدائرة في بلادنا المنكوبة قول له حجته وسنده، فقد خرج الناس على النظام الذي دعمت الجبهة الإسلامية القومية وصوله إلى الحكم في يونيو 1989 وعلى الرغم من انقسام الإسلاميين مع نهاية عشرية النظام الأولى، بين المؤتمرين الشعبي والوطني، إلا أن قيادة الحزبين اختارت مقاومة التغيير الذي أفضى بالإطاحة بالبشير في أبريل 2019. صحيح أنه في أهم مفاصله كان تغييراً مصنوعاً بأيدي استخباراتيه ظلت تتحين الفرص لفرض إرادتها على البلاد، لكن لولا اختلاف الإسلاميين أنفسهم، فيما بينهم، لربما كان مسار التغيير أقل خشونة وأقل كلفة، وأقل إرتباطاً بالخارج. إذ يبدو أن التضليل الاستخباراتي والعجز السياسي والفراغ القيادي للحزب الحاكم والكيانات التنظيمية المساندة له، كل ذلك، عظم من النهايات الكارثية التي تشهدها البلاد بسبب الحرب الدئرة منذ 15 أبريل الماضي، والتي يبدو جلياً أن أيدي خارجية هي المتحكمة في مسارها، بإصرارها على أنها حرب بين جنرالين!
هناك من يرى أن الكتلة الإسلامية، تنظيماً وكيانات، قد تكلست منذ فترة ما قبل الإطاحة بالبشير، لكونها ظلت عاجزة عن التأثير على قياداتها، وإلى درجة وصفت فيها أدبيات الإسلاميين أنفسهم مؤتمرات الحركة الإسلامية السنوية بأنها لقاءات هتيفة، (أصوات ترتفع في القاعات)، وقواعدها بجماهير يحركها استفزاز العلمنة المتزايدة في عالم تراجعت فيه قيم الفضيلة والكرامة، فطفقت تبحث عن تلك المعاني في عالم السياسة على غير سابق مثال في تاريخنا الوطني القريب أو البعيد.
إن تلك الظاهرة من التكلس والعجز تكشفت قبل سقوط نظام البشير بمدة، ومنذ تلك الفترة وإلى يوم الناس هذا والإسلاميين لا خطاب سياسي معلن يوحدهم غير خطابات الاختلاف مع خصومهم السياسيين وبالأخص خطابات اليسار. ولا فعل أصيل لهم، فقط ردود الأفعال هي المحرك لخطابات الأمين العام، ومن قبل للمظاهرات والتجمعات الاحتجاجية على سياسات الحكومة الانتقالية، التي لم تخلو من إخفاقات بينة، ومن إكراهات وتحديات كانت فوق طاقة حاضنتها السياسية.
إن حصر اللوم في الإسلاميين، وكأنهم الشيطان الأكبر، قول يجافي الحقيقة والواقع، وقد درج على مثله من يتوهمون أن الساحة الإقليمية والدولية هي صاحبة القرار الأول والأخير في هندسة التغيير الذي أفضى إليه حراك ديسمبر. وهؤلاء يتعمدون تقليل دور الأطراف الأخرى المتسببة في هذه الحرب، الأطراف التي ظلت، برافعة خارجية، تصر على خياراتها الآحادية، في دستور تنسيقية المحامين، وفي الاتفاق الإطاري، وما شابه من مبادرات كانت تعلم يقيناً أنها لن ترضي خصومها الذين عجزت عن اقتلاعهم، وكنسهم ‘بثورة ديسمبر’.
مع بداية التغيير، آثرت تلك الفئة أن تضع يدها مع ‘عسكر البشير’ ورفضت وعود القيادة المدنية التي عبر عنها رئيس حزب المؤتمر الوطني، في حقبة ما بعد البشير، بأن يكونوا معارضة مساندة لحكومة مدنية في الفترة الانتقالية، بمهام الانتقال، مؤيدين المحاسبة عبر مؤسسات القضاء. لكن عصى العسكر الذين تحالفوا مع المدنيين، بإسناد خارجي في رسم السياسات والتكتيكات، قوى اعتقاد تلك الفئة في أن الفرصة قد حانت، وأن البلاد ما عادت لها ثوابت، وسكتوا عن تخطئة الرافعة الخارجية التي شرعت تزين لمن تقلد المنصب الثاني في السيادة، بلا سند دستوري، أنه إن لم يبتلع الجيش في عشرين عاماً برضى عسكر السيادة وتخويف خصومهم فإن استقلاليته عنه ممكنة بعملية خاطفة تهيأ لنجاحها الإقليم وباركها صناع التواصل مع المجتمع الدولي لاقناع دولهم العظمى. والنتيجة اليوم أن القيادات المدنية التي قادت التغيير في سنوات ما قبل الحرب في خانة أبعد ما تكون عن الجيش، والجيش أكثر قرباً من خصومها السياسيين، سواء الإسلاميين منهم أو رفاق ‘الكفاح المسلح’.
والحال كذلك، فإن نهاية هذه الحرب يجب أن تكون نهاية لكل تلك التركة من العجز عن إدارة وطن يسع الجميع، نهاية تلك القيادات التي فشلت في حفظ كرامة السودانيين وأمنهم، نهاية حقبة استخبارات مخترقة، وزعامات مزيفة، نهاية هوان السيادة وضعف مؤسسات الدولة.
تلك هي النهاية التي يهمنا التفكير فيها، أما توهم نهاية الحرب بإعادة تدوير الفشل فمرفوضة، لأنها باختصار تعني أن ما دفعه المواطن في دارفور والخرطوم وكردفان والجزيرة، وكل من روع في أمنه وانتهك عرضه، كان من أجل إعادة أفراد، أو إعادة إرادة آحادية، ومن أجل لعبة سياسية في ملعب متهالك، بل ومهجور هذه المرة، وبلا جمهور. إن القبول بذلك قبول بالاستعمار في شكله ما بعد الحداثي.. استسلام الشعوب، وعجز النخب، وتشرذم القيادات، وتطويع إرادة الدول لغير صالح مواطنيها. وما أسوأ أن تعيش مقهوراً ذليلاً في وطنك!
وبعد، فلعلك تسألني، وأنا سائلك، ما السبيل إلى إيقاف هذه الحرب بمنطق يرفض إعادة تدوير الفشل؟ بمنطق يعيد للمواطن ثقته في من يتولى أمره، في قيادة تجبر الكسر وتكنس الخراب وتقيم البناء على أسس صحيحة؟
لا أمتلك لك إجابة، وليس لي الحق أن أنوب عنك في التفكير؛ ولا تمتلك أنت أن تصادر حقي في السؤال والتفكير في أمر يهمنا معاً؛ لأننا شئنا أم أبينا من طينة هذا الوطن بمناخه المتنوع، وأقاليمه المتباينة، وسحناته المختلفة، ولهجاته المتعددة.
إجابتي، غير الملزمة، أن يشارك ممثلون عن كل القوى السياسية والنقابيّة والمجتمعيّة وقادة الرأي في إعداد تصور عن معالم النظام السياسي المأمول، بشروط في النزاهة والكفاءة تستثني قيادات الصف الأول من كل الأحزاب والكيانات التي لم تمنع وقوع هذه الحرب. ولله الأمر من قبل ومن بعد.