من أبوظبي إلى بوغوتا إلى دارفور: ملف المرتزقة في قلب حرب السودان

باتهامه الإمارات بتمويل الفظائع عبر مقاتلين كولومبيين، أعاد السودان صياغة صراعه كحرب بالوكالة عابرة للقارات، لها تداعيات على صراعات القوى في الخليج، وأمن البحر الأحمر، وهشاشة منطقة الساحل.
مرتزقة للإيجار
في 5 سبتمبر، قدّم السودان شكوى رسمية إلى مجلس الأمن الدولي، اتهم فيها الإمارات بالتدخل المباشر في حربه.
الرسالة المكونة من ست صفحات، المرسلة من قِبل المندوب الدائم للسودان، الحارث إدريس الحارث، وزّعها سفير كوريا الجنوبية الذي يرأس المجلس لشهر سبتمبر، وأرفق بها 13 ملحقًا من الأدلة المزعومة.
الدبلوماسي قدّم ما وصفه بأنه “أدلة مقلقة وموثقة جيدًا” على دور أبوظبي في إطالة أمد الصراع، واصفًا إياه بـ”الانتهاك الجسيم لسيادة السودان” و”تهديد مباشر للسلم والأمن الإقليميين”.
وقد نفت الإمارات باستمرار تقديم أي دعم عسكري لأي طرف من أطراف الصراع.
وبحسب ما ورد في مذكرة السودان، فإن ما بين 350 و380 جنديًا كولومبيًا سابقًا تم تجنيدهم عبر شركات أمنية خاصة مقرها الإمارات، منها: مجموعة خدمات الأمن العالمية برئاسة رجل الأعمال الإماراتي محمد حمدان الزعابي، ووكالة الخدمات الدولية التي أسسها الكولونيل الكولومبي المتقاعد ألفارو كيخانو.
ووفقًا للوثائق، بعد عملية التجنيد، تم نقل المقاتلين أولاً إلى الصومال، ثم إلى بنغازي في ليبيا تحت حماية الجنرال خليفة حفتر، وبعدها جرى نقلهم برًا عبر تشاد إلى دارفور.
كما يقول السودان إن ما لا يقل عن 248 رحلة جوية مستأجرة من الإمارات بين نوفمبر 2024 وفبراير 2025، نقلت رجالاً وأسلحة ومعدات إلى البلاد، بما مجموعه أكثر من 15 ألف ساعة طيران.
وبحسب الشكوى، جُمعت هذه القوات تحت اسم “ذئاب الصحراء”، واتُّهموا بالقيام بدور قتالي مباشر، شمل تشغيل الطائرات المسيّرة والمدفعية، وقيادة هجمات على مواقع الجيش السوداني، بل وحتى تدريب الأطفال على القتال.
تقول الخرطوم إنها عثرت على وثائق بالإسبانية تجيز استخدام الفسفور الأبيض، بالإضافة إلى قوائم طلبات أسلحة، وأجهزة “ستارلينك”، وخرائط لمواقع الجيش السوداني.
الجرائم المزعومة
يتهم الملف المرتزقة المدعومين إماراتيًا بارتكاب جرائم حرب، من بينها قتل 73 مدنيًا في الفاشر في وقت سابق هذا العام، وتجنيد أطفال لا تتجاوز أعمارهم عشر سنوات.
كما اتهم السودان الطائرات الإماراتية بتهريب الذهب والصمغ العربي والماشية، مما يربط الحرب بعمليات نهب منظمة.
مثل هذه المزاعم تتعارض بشدة مع الصورة التي روّجتها الإمارات طويلًا عن نفسها كقوة استقرار في إفريقيا. وبوصف أبوظبي بـ”المهندس الشيطاني” للحرب، فإن الخرطوم تتحدى أحد أبرز الفاعلين في الخليج.
يقول هشام مدني، محلل سياسي ومؤسس حركة المجتمع المدني السوداني، إن السودان حاول بالفعل فضح تورط الإمارات أمام محكمة العدل الدولية.
ورغم أن المحكمة رفضت القضية بسبب تحفظ أبوظبي على بند الإبادة الجماعية، يرى مدني أن الخرطوم أجبرت الإمارات على المثول أمام “محكمة الرأي العام الدولي”.
ويضيف: “شكوى السودان الأخيرة لمجلس الأمن، المدعومة بأدلة حول خط المرتزقة، شوّهت صورة الدولة الخليجية أكثر”.
رد الإمارات
رفضت وزارة الخارجية الإماراتية شكوى السودان، ووصفتها بأنها بلا أساس و”مدفوعة سياسياً”.
وقالت الوزارة لـ The Africa Report:
“من اللافت أن سلطة بورتسودان نشرت هذه الرسالة عبر قنواتها المعتادة على وسائل التواصل وشبكات التضليل، بغرض الدعاية قبل نشرها رسميًا في الأمم المتحدة، في محاولة واضحة للتلاعب بالرأي العام وتجاوز الإجراءات الرسمية”.
وأضافت أن ملف الخرطوم ليس سوى “واحد من عدة خطابات مفبركة” جرى دحضها سابقًا بالأدلة، متهمة السودان بالاعتماد على “تحريفات وفيديوهات ملفقة بلا صلة مؤكدة بالإمارات”.
ودعت الوزارة الخرطوم إلى الكف عن “إساءة استخدام المنصات الدولية” مثل مجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية، والتركيز بدلًا من ذلك على “إنهاء دوره في إيذاء وقتل الشعب السوداني خلال هذه الحرب الأهلية المدمرة”.
تشابك كولومبيا
يمنح الرابط الكولومبي ملف السودان بُعدًا عالميًا.
فمع امتلاكها واحدًا من أكبر مخزونات الجنود القدامى المدربين، والذين صقلتهم عقود من الصراع الداخلي، ظلت كولومبيا أرضًا خصبة لتجنيد شركات الأمن الخاصة.
آلاف الجنود السابقين تعاقدوا للعمل بالخارج، في الخليج وأمريكا الوسطى وغيرها، غالبًا بسبب قلة الفرص الاقتصادية في بلادهم.
ويقول السودان إن كثيرًا من هؤلاء أُغروا بوعود وظائف أمنية مربحة في الإمارات أو دول خليجية أخرى، ليُعاد نشرهم في جبهات دارفور.
بالنسبة للخرطوم، يُظهر هذا الأسلوب ليس فقط استغلال قدامى المحاربين الكولومبيين، بل يكشف أيضًا البنية الخفية التي تسمح لحرب إفريقية بالاعتماد على قوة بشرية من أمريكا اللاتينية.
في بوغوتا، أثارت هذه الاتهامات حساسية شديدة. فقد حققت وسائل الإعلام في تهريب الجنود القدامى وسلطت الضوء على الدور الغامض لوكالات التجنيد.
وطالبت عائلات القتلى والمفقودين بتوضيحات، حيث خرجت عدة أرامل وأقارب إلى العلن متحدثين عن كيف غادر أحباؤهم لوظائف “حراسة أمنية” ليختفوا في حرب السودان.
وأكد الرئيس غوستافو بيترو مقتل ما لا يقل عن 40 كولومبيًا هناك، مندداً بالممارسة وحاثًا قدامى المحاربين على عدم “بيع أنفسهم مقابل المال” في صراعات أجنبية.
ورأى أن هذه الوفيات ليست مجرد مأساة إنسانية، بل وصمة على سمعة كولومبيا العالمية.
ما يطلبه السودان
يضغط السودان على مجلس الأمن لفتح تحقيق شامل في تجنيد المرتزقة، وتصنيف قوات الدعم السريع كميليشيا إرهابية، وإصدار إدانة رسمية للإمارات على ارتكاب جرائم حرب.
وتصر الخرطوم على أنه من دون هذه الإجراءات، ستواصل قوات الدعم السريع العمل بإفلات من العقاب، بينما يستخرج رعاتها الأجانب موارد السودان تحت غطاء الحرب.
لكن الدبلوماسيين لا يتوقعون أي تحرك ملزم، نظرًا لارتباطات الإمارات الوثيقة بواشنطن وموسكو وباريس ولندن، القائمة على التجارة والطاقة والتعاون الأمني، وهو ما يجعل أي قرار ضدها غير مرجح.
وفي نيويورك، التوقع هو أن يماطل المجلس، مع تردد القوى الكبرى في مواجهة أبوظبي بشأن السودان.
ويقر مدني بأن تصنيف الدعم السريع كمنظمة إرهابية أمر غير مرجح للسبب ذاته، لكنه يؤكد أن الاستراتيجية لا تزال مهمة:
“حتى من دون تنفيذ، فإن الجهد المبذول لفضح تدخل أبوظبي يسبب لها أضرارًا على مستوى السمعة، ولهذا نرى محاولات إماراتية مستمرة لتشويش المشهد والتشكيك في الأدلة التي تقدمها الخرطوم”.
تداعيات إقليمية
إذا صحت اتهامات السودان، فإن النتائج ستتردد أصداؤها في أرجاء المنطقة.
في الخليج، يرى محللون أن السعودية قد تستغل الفرصة لتطرح نفسها كوسيط مسؤول عبر عملية جدة، بينما ستسعى مصر، القلقة من حدودها الغربية تحت سيطرة الدعم السريع، إلى تعميق دعمها للجيش السوداني.
وقد ترى تركيا وقطر – الخصمان التقليديان للإمارات – فرصة لإعادة بسط نفوذهما في القرن الإفريقي.
أما البحر الأحمر، فقد صار ساحة تنافس خليجي، وتزيد اتهامات السودان من حدة الصراع على الموانئ من بورتسودان إلى إريتريا.
“المنافسة على السيطرة على هذه النقاط الاستراتيجية باتت أكثر إلحاحًا، مما يرفع خطر عسكرة أحد أهم الممرات البحرية في العالم.”
كما قد تمتد التداعيات إلى زعزعة الاستقرار في منطقة الساحل. إذ يحذر محللون من أن خط المرتزقة القادم من كولومبيا يهدد بتطبيع الاستعانة بمقاتلين أجانب في الحروب الإفريقية، مما يخفض كلفة العنف ويطيل أمد الصراعات في دول هشة مثل تشاد وأفريقيا الوسطى.
لكن الخاسر الأكبر ربما يكون سمعة الإمارات التي بنتها بعناية.
فلسنوات، قدّمت أبوظبي نفسها كمانح إنساني ومستثمر في إفريقيا.
أما الآن، فإن مزاعم تدريب الأطفال على القتال، واستخدام أسلحة محظورة، ونهب الموارد بشكل منهجي، كلها تتعارض مع تلك الصورة.
نقلا عن افريكا ريبورت



