عبد الله علي إبراهيم
رأينا كيف قصر منصور قصر عمل الألته على أبناء جبال النوبة كجماعة مستحقَرة لأنها كانت نهباً قديماً للنِّخاسة. ونريد هنا، قبل الخوض في نظرية منصور، عن هذه الخدمة المسيئة نقض عقيدة الرجل في أنّ النوبة وحدهم هم من ابتــُلوا بخدمة الألته من دون السودانيين الآخرين. ومتى ما أثبتنا أن الألته شملت النوبة وغير النوبة أصبح ميسوراً بالطبع الطعن في نظرية منصور عن الاستحقار والرق والمهن.
جاءت الدراسات المستجَدَّة بما وسّع نطاق من خدموا الألته فوضح شمولها غير النوبة. فلم يَقصِر كتاب أحمد العوض سكنجا “من دَرَك الرَّقيق إلى دَرَج العُمَّال” (1996) الشغلة على النوبة. وهو كتاب قرأه منصور منذ تأليفه “جنوب السودان في المخيلة العربية” (2000) وأشاد به على صفحة 415 منه. ثم اعتمده في ثبت مراجعه في كتابه “السودان: أهوال الحرب” (2003). وعلى إلحاف منصور على مسألة النوبة والألته في كتابين؛ مرَّت سنوات ثلاث على صدورهما، لم يتمهل فيستجلي بيِّنة الأمر كما يجدر بباحث طويَّته البحث عن الحقيقة. لم يَقْصِر سكنجا في كتابه المنير مهنة الألته على النوبة كما ذكرنا. ففي صفحاته (123-125) شمل الرقيق المحررين أو الآبقين أيضاً في شغل الألته في بدء عهد الاستعمار. وقال إن هذا المصدر جفَّ بالتدريج لأن الرقيق السابقين اشمأزوا منه وابتعدوا عنه. فلجأت السلطات للسجناء ليخدموا الألته. وتعذَّر هذا المصدر أيضاً لأن خدمة المساجين هي سحابة النهار لا طوايا الليل بينما الألته من خدمات الليل لأنها مُقرفة وروائحها طاردة. فأولى بها أن تؤدَّى ليلاً. ولجذب العاملين للخدمة فيها زادت سلطات الخرطوم الأجر اليومي الى تسعة قروش بغير نتيجة. وشحَّ الطلب للعمل فيها حتى كادت السلطات أن تـُلغي النظام بأسره. ولكنهم وجدوا أن بعض مهاجرة النوبة في الخرطوم راغبين في الخدمة للغرض. ولكن هذا المدد النوبي سرعان ما تهدَّده التوقُّف لبدء الحكومة في “سياسة جبال النوبة” المعروفة التي قضت بالنجاة بالنوبة وغيرهم من تأثير الإسلام والعربية. ومن باب أولى أن تعترض الحكومة على هجرات النوبة للشمال النيلي حتى لا يقعوا فريسة تأثيرات الشمال المــُنكَرة. وكان الرأي أن “يكشوا” (جمع وترحيل الجماعة عنوة) النوبة في الخرطوم ليعودوا بهم إلى بلدهم لينشأوا على لبن ثقافتهم الأصل الخالصة. وطلب السكرتير الإداري من مديري المديريات الشمالية ردَّ النوبة إلى بلودهم. ثم استفسرهم عن أعداد النوبة وغير النوبة. العاملين في الألته، وعن أجورهم. وتساءل إن كان بوسعهم الحصول على غير النوبة لاستخدامهم في المهمة. واتضح بالتحرِّي أن وجود النوبة في تلك المديريات غير ضروري لخدمة الألته. ففي مديرية الفونج، التي خلت من النوبة، خدمها المساجين. ورأى المسؤولون أن بوسع المديرية استخدام شعب القُمَّز للخدمة كاحتياطي. وورد في تقارير تحرى المفتشين فيها عن النوبة في خدمة الألته فوجدوهم اثني عشرة من جملة مائة وتسعة عاملاً في مديرية بربر، وسبعة من تسعة وعشرين عاملاً في مديرية أخرى، بينما كان هناك اثنان وتسعون من الحلنقة والبني عامر والبورنو والفور، وثلاثة من جملة ثمانية عمال بالنيل الأبيض فيهم الدينكا والفور والفرتيت والهمج والبرقو.
لا تتَّفق إذن الاحصائيات من حصيلة تحرِّيات الإنجليز مع منصور في قَصْرِ عمل الألته على النوبة. بل جاءت بما يفيد أنه كان من بين عمالها عربٌ ممَّن نسبهم منصور إلى الجماعة الشمالية المميَّزة. وقد عَرَض سكنجا قائمة بالأصول العِرقية والقبلية لعمال الألته بمصطلح مفتشي الإنجليز فكانت على هذا النحو:
سودانيون (عبيد) وجنوبيون (زنوج) = 35
سودانيون (عبيد) وجنوبيون (زنوج) = 35
الفور وغرباويُّون من غير العرب = 28
عرب (رحل) = 19
فلاتة = 8
دناقلة = 6
أثيوبيون = 1
ونواصل