عبدالسميع العمراني
مؤتمر القاهرة الذي بدأ بطموحات عالية تعلق بها أهل السودان جميعاً ولكنه سرعان ما انتهى إلى مولود صغير مشوه جاء بعد مخاض عسير كان نتاجه أو خلاصته عبارة عن بيان بروتكولي صغير كتب بأنفاس وأصابع تقدم، وقد تعمدت تلك الأنامل التي صاغته، تعمدت أن تتحاشى توجيه النقد أو الإدانة للدعم السريع، وعجزت عن أن تنطق بكلَمة حق عن ظلم الجنجويد لأهل السودان.
ومهما يكن من أمر فإنه وفي تقديرنا أن المؤتمر قد أحدث حراكا قوميا سودانيا بعد فترة ركود طويلة وسكون سياسي قاتل قد أصاب كل المنظومة السياسية بالسودان، وقد جاء هذا المؤتمر برعاية ورغبة مصرية صادقة في لم شمل الأسرة السودانية للحفاظ على الدولة السودانية من الانهيار والتفكك، وقد استطاعت مصر جمع الفرقاء السودانيين لأول مرة بعد مرور أكثر من عام على الحرب المفروضة على قواتنا المسلحة.
ورغم أن المؤتمر قد تجاهل وجود أهم فاعلين ولاعبين في الساحة السياسية والأمنية السودانية وهما الجيش السوداني والحركة الإسلامية السودانية واجهتها السياسية (المؤتمر الوطني) ذلك الحزب الكبير المحلول.
ولعل أكثر مالفت انتباهنا هو منظر وقوف قادة تكتل تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم) وهم يهتفون بشكل طفولي مشيرين بأصابعهم بعلامة النصر وبعضهم بعلامات أخرى عرفت بها المكونات السياسية الإسلامية مثل إشارات الانتهازي سليمان صندل الذي باع كل شيء وتخلى عن مبادئه وقضية أهله وقد أصبح مهووساً فقط بكيفية الانتقام والتشفي من قادة ومواطني السودان النيلي.
تألمنا بشدة ونحن نشاهد هؤلاء القادة وهم يتصرفون بنفس الأساليب والطرق القديمة، تلك الهتافات والتصرفات الصبيانية التي كانوا قد درجوا عليها حينما كانوا في سدة الحكم، وهي نوع من السذاجة وعدم المسؤولية وضياع الوقت، إنه لمحزن أن نشاهدهم وهم لازالوا بنفس عقلية ماقبل الحرب، مستمرين في غرورهم وتجبرهم وغبائهم وأحقادهم القديمة َوعبارات مكررة قد ملها الشعب السوداني، لم يتغير شيء وأعادونا إلى نقطة الصفر البارد لأنهم في أوهامهم البالية يريدونها سلطة صافية لهم وحدهم مع بعض اللاعبين الكمبارس من الذين يمكن أن يضعوهم على الهامش.
كم كنا نود أن يكون هذا العام الذي مضى ثقيلاً وقاسياً على السودان بعد أن أذاقت فيه عصابات الجنجويد الشعب السوداني الويلات والألام بعد أن مارست القتل والسلب والنهب والخراب والتدمير والتهجير للمواطنين، اغتصبوا الفتيات والنساء وباعوا بعضهن في اسواق الغرب الأقصى، سلبوا المنازل والمكاتب والشركات والبنوك ودمروا المؤسسات والأسواق والفنادق والمستشفيات ولم يتركوا مذمة أو منكرا أو فعلا قبيحا إلا وارتكبوه في حق المواطن السوداني بالخرطوم والجزيرة كردفان ودارفور.
كل تلك الأفعال الشائنة والانتهاكات الفظيعة لم تشغل بال تقدم بقدر ما كان يشغلهم ضرورة عدم حدوث وفاق سوداني تام وكامل ومنسجم، لأن الوفاق التام سيضم الإسلاميين ذلك البعبع المزعج الذي يشغل قلوبهم وعقولهم ليل نهار.
هم فقط يركزون على ضرورة عدم وجود الإسلاميين بالسودان في أي شكل سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أو أمني وهو أمر مستحيل بحسابات السياسة في السودان، رغم أن قادة تقدم يعلمون جيداً أن الإقصاء مستحيل والقضاء التام على الإسلاميين بالسودان من رابع المستحيلات.
وقد كان من المؤسف جداً أن تشاهد جموع الشعب السوداني الموجودين في الداخل والذين اكتووا بعذابات النزوح القسري هرباً من بطش مرتزقة الدعم السريع، وكذلك معاناة السودانيين الذين لجأوا إلى بعض دول الخليج ومصر وليبيا وإلى عدد من البلدان الأفريقية جنوب السودان وتشاد إريتريا إثيوبيا ويوغندا ورواندا والذين يواجهون ظروفاً قاسية وأوضاعاً نفسية وإنسانية معقدة، تواجه الآن من لجأوا إلى ليبيا ومصر وإثيوبيا، إنه قد كان أمرا محزنا لهم أن يشاهدوا قادة تقدم وهم يصطفون بشكل مسرحي وهم يهتفون بعبارات مسرح الرجل الواحد، متناسين ومتجاهلين حجم المعاناة والأسى والمآسي التي تواجه المواطن السوداني بالداخل المكتوي بنيران الغلاء الطاحن وشح بل انعدام الخدمات الضرورية، بجانب ما يلاقيه المهجرين بالخارج من إهانات واحتقار في بلدان اللجوء، كلها أسباب إنسانية لم تؤثر أو يتأثر بها قادة تقدم، فما زالوا في غيهم وأوهامهم القديمة وهتافاتهم البالية الكذوبة (حرية، سلام، وعدالة) والثورة خيار الشعب، نعم هي خيارات مشروعة قد آمنت بها مجموعات شبابية صادقة وضحت بالغالي والنفيس من أجلها لتكون واقعاً في المشهد السياسي بالسودان، حتى تكون هنالك حرية في السودان، حرية حقيقية تأتي بعد إجراء انتخابات حرة ونزيهة عقب فترة انتقالية صحية معافاة من المأرب الشخصية وتصفية الحسابات الخاصة، مع إعداد دستور انتقالي متوافق عليه يجمع كل السودانيين ولايقصي أحدا، وبعدها بكل تأكيد ستتحقق العدالة والسلام ويأتي الدستور الديمقراطي الدائم لحكم البلاد، هذه هي خيارات الثورة الحقيقية وليست الشعارات الكذوب المزيفة على لسان قادة تقدم.
فما يهم قادة تقدم فقط هو كيفية التشفي والانتقام وشرب دماء خصومهم الإسلاميين والكتلة الديمقراطية، كل همومهم تنحصر في أن يتم القضاء تماماً على الإسلاميين عبر بندقية الدعم السريع التي يحتفون بها سراً وعلانية، وأمانيهم أن ينثر رماد الإسلاميين في الهواء وهي واحدة من الأماني التي صرح بها أحد قادة اليسار السوداني المتطرف في لقاء على الهواء خلال الفترة الانتقالية الانتقامية على رأي الست هبة.
كم كنا نود أن نرى قادة تقدم بشكل جديد وهم يجلسون في شكل دائري مترجين مجموعة الكتلة الديمقراطية أن تنضم لهم، وأن يستوعبوا في تلك الدائرة الوطنية كل التيارات السياسية السودانية جميعها إسلاميين وأنصار السنة وغيرهم دون إقصاء أو رفض لأي طرف سياسي.
كم كنا نأمل أن يحدث تنازل ونزول عن البرج العاجي من أجل إيقاف معاناة الشعب السوداني وإنقاذه من هذه الكارثة التي وضعته في خانة النزوح واللجوء والتشرد والضياع والجوع، وكم كنا نأمل أن نرى موقفاً قوياً وموحداً من تكتل تقدم ليدين الاعتداءات المستمرة التي تتعرض لها مناطق واسعة بالسودان من قبل عصابات الدعم السريع الإجرامية، ولكن بعد ذلك الظهور المخزي والخائب لقادة تقدم وإظهارهم التعاطف الانحياز المبطن الذي يظهر في مراوغات لسان حمدوك والتأييد العلني الذي تظهره تصريحات أبوالجوخ والفكي مايؤكد انحيازهم الفاضح إلى جانب الدعم السريع ضد جيش بلادهم، وكل أمانيهم أن ينتصر الدعم السريع على القوات المسلحة وعلى المواطن السوداني ليعودوا إلى الحكم بأي ثمن.
هذه المواقف الرمادية قد أصابت قطاعات واسعة من الشعب السوداني بالإحباط واليأس والحسرة، وهم يشاهدون نفس الوجوه بنفس التحركات الجسدية التي تظللها نزوات التشفي والانتقام والتي يحاولون مداراتها بمسحة نبل كاذبة، ولكن لغة الجسد تشير إلى نفاق وخبث لايخفى على صاحب بصيرة .
إنه لمحزن حقاً أن يشاهد المواطن السوداني المكلوم، محزن ومؤلم أن يشاهد تصرفات ساذجة وطفولية لقادة تقدم وهم يتصرفون
بغباء يحسدون عليه، هل يعقل أن لا يكون بينهم رجل بدهاء المحجوب أو مكر الترابي وحكمة الصادق المهدي وأدب ورزانة نقد، ألا يعرفون كيف يلعبون بولتيكا، أليس فيهم دارسا للعلوم السياسية ليعلمهم أن السياسة هي فن الممكن وليست هي التمسك المستحيل.
إنه أمر مثير للدهشة والاستغراب، أمر يدعونا للبكاء حزنا ولوعة على مستقبل السودان، وختاماً نصرخ مع شاعر النيل حافظ ابراهيم…..
إلام الخلف بينكما إلاما….
وهذه الضجة الكبرى علاما.