الرئيس البرهان والجمهورية الرابعة

رشان أوشي

في هذه اللحظة التاريخية بالغة الهشاشة، يجب ألا ننظر إلى التظاهرات التي انتظمت الشوارع باعتبارها استجابة ظرفية لخطاب تعبوي مؤقت، بل بوصفها فعل سياسي عميق ومستقل، عبرت فيه الجماهير عن عن إرادة جمعية ترى في استعادة احتكار الدولة للعنف المشروع، وفق تعريف ماكس فيبر، شرط أولي لإنهاء الفوضى، والقضاء على التمرد، وتحرير كل شبر من التراب السوداني من قبضة السلاح المنفلت والمشاريع العابرة للحدود.

ما يلفت النظر في هذه الموجة الجماهيرية أنها لم تُنتجها الأحزاب، ولم تُصغ عبر خطاب النخب، ولم تُستدع بأمر من القائد العام أو من مؤسسة الحكم. لم يطلب “عبد الفتاح البرهان” من أحد أن يخرج إلى الشارع. ما حدث كان أقرب إلى انفجار تلقائي للذاكرة الوطنية، تلك الذاكرة التي تختزن سرديات المقاومة منذ تشكّل الدولة السودانية الحديثة، وميراثها الطويل في مقاومة المستعمر ورفض الحكم بالوكالة.

هذه المظاهرات تمثل تعبيراً عن وعي تاريخي متراكم، وعن شعور جمعي بأن ما يجري ليس مجرد صراع على السلطة، بل معركة على تعريف الدولة نفسها: هل تكون دولة ذات قرار سيادي مستقل، أم ساحة مفتوحة لوكلاء المشروع الدولي، حيث يُدار القرار الوطني من خارج الحدود، وتُختزل الإرادة الشعبية في أدوار وظيفية هامشية.

غير أن الدلالة الأخطر، والأعمق سياسياً، تكمن في ما بعد الشارع. فهذه الجماهير التي خرجت تحت راية المقاومة الشعبية لا يمكن اختزالها في مشهد تعبوي مؤقت، بل يجب أن تمثل النواة الصلبة لأي حاضنة سياسية قادمة. إنها المادة الاجتماعية الخام التي يمكن عبرها إعادة تشكيل الشرعية السياسية في السودان، خارج معادلات الوصاية، وبدون هندسة نخبوية.

من الوهم الاعتقاد بأن السودان سيظل محكوماً إلى الأبد بصيغة مجلس سيادة متعدد الأقطاب كترتيب انتقالي دائم. فالتاريخ السياسي يعلمنا أن البنى الانتقالية، إذا طالت، تحولت إلى عائق أمام الاستقرار. شكل الحكم سيتغير عاجلاً أم آجلاً، لكن هذا التغيير لن يكون قسرياً ولا مفروضاً، بل ثمرة توافق وطني واسع، يتأسس على مشروع سياسي واضح المعالم، ويؤسس لعقد اجتماعي جديد.

في هذا المعنى، لم تكن المظاهرات مجرد حدث، بل كانت بداية سردية سياسية جديدة. وفي أفق هذا الحراك الشعبي، يلوح سيناريو سياسي لا يمكن تجاهله.

قريباً، قد يجد السودان نفسه أمام نمط حكم مركزي جديد، يتولى فيه الرئيس عبد الفتاح البرهان قيادة البلاد بصورة منفردة، وفق تشكيل سلطوي مختلف عن الصيغ الانتقالية المرتبكة التي أعقبت الحرب. هذا التحول، إن وقع، سيكون لحظة تأسيسية لشكل الدولة السودانية (الجمهورية الرابعة).

غير أن هذا التأسيس لن ينجح إن أُعيد إنتاج الماضي. فالسياق التاريخي، والتحولات المجتمعية العميقة التي فرضتها الحرب، تجعل من المستحيل أن يكون “البرهان” نسخة مكررة من الرئيس الأسبق “عمر البشير”. الفارق الجوهري هنا لا يكمن في الأشخاص، بل في البيئة السياسية والوعي الجمعي؛ إذ لم يعد المجتمع السوداني قابلاً للانضباط الأيديولوجي المغلق، ولا لشكل الحكم الحالي القائم على التحالفات الزبائنية.

إن الجمهورية القادمة ستحتاج إلى رؤى أكثر انفتاحاً فكرياً، وبراغماتية سياسية أعلى، تتجاوز ثنائيات الماضي، وتتعامل مع الواقع كما هو، لا كما تتخيله الشعارات.

وبحكم حتمية التغيير وفق هذا المسار، يصبح من الضروري أن يؤسس الرئيس البرهان حاضنة سياسية جديدة، لا بوصفها امتداداً للنادي السياسي القديم، بل على أنقاضه، ذلك النادي الذي تشظى، وفقد شرعيته الجماهيرية، ومات سريرياً بعد أن عجز عن حماية الدولة أو تمثيل المجتمع في لحظة الخطر الوجودي.

إن استثمار التفاعل الشعبي الواسع مع معركة الكرامة لا ينبغي أن يتوقف عند حدود التعبئة العسكرية أو الاصطفاف اللحظي، بل يجب أن يتحول إلى رأسمال سياسي واجتماعي يبنى عليه مشروع الاستقرار. فالجماهير التي منحت الثقة في لحظة الحرب، ستطالب بالضرورة بدورها في لحظة السلم.

هنا، يصبح التحدي الحقيقي ليس في كسب المعركة، بل في إدارة ما بعدها: كيف تتحول شرعية السلاح إلى شرعية دولة؟ وكيف يُترجم التفويض الشعبي إلى عقد سياسي لا يعيد إنتاج الانسداد؟.

محبتي واحترامي.

Exit mobile version