د. إبراهيم الأمين
يتمتع السودان بموقع فريد في صدر القارة, وبوسطية تميزه أرضاً وسكاناً عن الدول المحيطة به. وهو ملتقى طرق بين شمال القارة وجنوبها, وبين شرقها وغربها. ويشكل السودان مع كندا وأستراليا أضلع المثلث الغذائي العالمي مستقبلاً. وللسودان دور محوري فى أي تكامل إقتصادي بين إفريقيا شمال الصحراء، وأفريقيا جنوب الصحراء. وبين إفريقيا والعالم العربي. علماً بأن مستقبل الغذاء على الصعيد العالمي وإنتاجيته فى حالة تناقص مستمر، والفائض لدى الدول المحتكرة والمصدرة للمنتجات الزراعية خاصة الحبوب، أصبح فائضاً إستراتيجياً عند هذه الدول خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، ويستخدم للضغط الأقتصادي والسياسي على دول العالم الثالث. بمعنى صعوبة الحصول عليه بالنسبة للدول المغضوب عليها حتى وإن توفر لها المال. مثل هذه الدول تكون مهددة فى أمنها، وفي كرامتها، وفي حياة مواطنيها. والأمثلة كثيرة لدول اعتمدت فى غذائها على دول أخرى، وكانت النتيجة أنها رهنت إرادتها ومستقبلها لما يتخذ من قرارات بحرمانها من الغذاء. الاتحاد السوفيتي كمثال كان دولة عظمى تعرض، عندما فشل برنامجه الزراعي، لعملية حصار اقتصادي إستخدم فيه الغذاء كوسيلة للضغط والإستنزاف “القوة الناعمة”. وكانت النتيجة أن تحقق النصر للولايات المتحدة وحلفائها بلا حروب. وفي المقابل حدث إرتفاع في أسعار المنتجات الغذائية بصورة غير مسبوقة، وبصورة أصبحت تشكل خطراً على الأمن والسلم العالميين. وتشير بيانات المنظمة العربية للتنمية الزراعية، إلى تصاعد قيمة الواردات العربية من السلع الغذائية من 13,14 مليار دولار عام 2000م إلى 24,94 مليار دولار عام 2005م، ثم إلى 32,7 مليار دولار عام 20007م. وشكلت الحبوب نحو 41% من القيمة الكلية. ويستورد العالم العربي ثلثي إحتياجاته من السكر، وأكثر من نصف إحتياجاته من الزيوت والشحوم، وحوالي ثلث متطلباته من الألبان والبقوليات. وربما لهذه الأسباب جاءت مقررات إعلان الرياض بشأن تعزيز التعاون في مجال الزراعة والتوجه للاستثمار فى الزراعة. والبلاد الأكثر تأهيلاً لمقابلة احتياجات الشعوب العربية هي السودان، إذا أقتنع أهله بدوره الأساسي فى هذا المجال، قناعة تبدأ بالتخلي عن الذهنية التي يتم التعامل بها مع قضايا السودان الكبري. (الإضافة الأخيرة من عندي!!)
الدول الكبري أمريكا ودول أوروبا لها استراتيجية معلنة، وهي التحكم بمختلف الوسائل في مسار التنمية واستقلالية دول العالم الثالث خدمة لمصالحها. ففى عام 1974م قدم كيسنجر دراسة للرئيس جيرالد فورد يقول فيها إن الزيادة السكانية تشكل خطراً على الولايات المتحدة ومصالحها فى العالم. في هذه الدراسة ركز كيسنجر على 13 دولة للولايات المتحدة مصالح استراتيجية فيها هى: المكسيك، البرازيل، كولومبيا فى أمريكا الجنوبية ، تركيا، الهند، بنغلاديش، باكستان، إندونسيا، تايلاند، الفلبين فى آسيا، نيجيريا، مصر، أثيوبيا في إفريقيا. تقول الدراسة إن الزيادة في السكان في هذه الدول مثيرة للقلق لأنها ستؤدي إلى زيادة قوة هذه الدول العسكرية والسياسية والأقتصادية، بشكل يدفعها إلى السعي لزيادة نموها على المسرح الدولي، خلال ربع القرن المقبل. واقترح كيسنجر إتباع سياسات تحد من زيادة السكان، وقدرة هذه الدول على إنتاج الغذاء. فالقمح الأمريكي يطرح في أسواق العالم بأسعار تقل بكثير عن تكلفة الإنتاج المحلي، حافزاً لحكومات هذه الدول للتخلي عن دورها فى تطوير ودعم القطاع الزراعي. وللولايات المتحدة إستراتيجية للتعامل مع العالم العربي، وهى تحجيم وإضعاف الدول العربية. بدأت بمصر في حرب 1967م ثم سلسلة الحروب التي تم إدخال العراق فيها حرب الخليج الأولى (مع إيران) وإحتلال الكويت، حرب الخليج الثانية لتحرير الكويت وهي التى مهدت للضربة القاضية (حرب الخليج الثالثة)، حيث تم إحتلال العراق وتسريح الجيش العراقي. والدخول في مساومات مكنت إيران من التدخل لدعم الشيعة للهيمنة، ومحاصرة السنة، الأمر الذي قاد في النهاية إلى ظهور داعش، ونشأة التحالف الدولي لمحاربتها بقيادة الولايات المتحدة، مما أدي الى تعقيد الأزمة في العراق. وفي الأفق حديث عن تقسيم العراق إلى دول ثلاث: كردية، سنية، وشيعية.
وفي سوريا معارك طاحنة وقودها الشعب السوري. والنظام باستبداده يريد أن يستمر بأى ثمن، حتى وإن كان الثمن هو قتل وتشريد مواطنيه وتدمير المباني والبني التحتية وإحراق الحقول والمصانع.
في ليبيا بعد زوال حكم القذافي، دخلت البلاد في حروب تقودها المليشيات فجر ليبيا، داعش…الخ.
في لبنان دولة بلا رأس، حكومة ضعيفة ومحاصرة، ومع هذا يتحمل الجيش اللبناني وهو المؤسسة الوحيدة المجمع على أنها تحمل هوية لبنان بكل مكوناته، تبعات حالة الصراعات الدامية المدعومة من الخارج.
في اليمن غياب تام للدولة، بعد إنقلاب الحوثيين وإحتلال صنعاء وتمدد الحوثيين فى مناطق أخرى.
في السودان، فشل النخبة الحاكمة في إدارة التنوع أدي إلى فصل الجنوب، وإلى تصعيد الحرب في دارفور بعد إتفاقية أبوجا وما حدث من تسريبات عن دور لزوليك مهندس الإتفاقية فى نقل الحرب من الجنوب إلى الشمال. السودان اليوم يعاني من غياب الإستقرار السياسي والمجتمعي داخلياً ومحاط بدول مأزومة في جنوب السودان وإفريقيا الوسطى وما يحدث في دول غرب إفريقيا.
وتتعرض المملكة العربية السعودية لهجمة شرسة تهدف إلى تحجيم دورها الإقليمي تكراراً لما حدث لمصر التي تآكل دورها عربياً وإفريقياً. السعودية محاصرة بما يحدث في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، وبالحراك الإيراني فى البر والبحر، وبالحركات التكفيرية، وبفشل السياسية الأمريكية فى المنطقة بعد أن تمكنت من استغلال البترول الصخري بكميات كان من نتائجها زيادة المعروض فى السوق وإنخفاض أسعاره. هنا تبرز أهمية التفكير في مشاريع عملاقة على ضفتي البحر الأحمر، محورها العلاقات السودانية السعودية. على الضفة الشرقية يتم تجميع المصانع البتروكيماوية والصناعة الثقيلة لتتكامل معها الصناعات التحويلية والمشروعات الزراعية بشقيها النباتي والحيواني على الضفة الغربية. والبحر الأحمر بعد توسيع قناة السويس والزيادة المتوقعة في عدد البواخر بين الغرب والشرق نتيجة للطفرة التي حدثت في إقتصادات الدول الصاعدة فى شرق آسيا وفي الصين والهند، أصبح أهم شريان مائي في العالم. يمكن أن يكون في البحر الأحمر وعلى إمتداده من قناة السويس إلى باب المندب، أكبر تجمع للمناطق الحرة في السعودية والسودان، مصر، الأردن، اليمن، جيبوتي، أريتريا. هنا تظهر الميزة النسبية لبورتسودان كسوق تجاري عالمي لكل المنتجات الزراعية القادمة من السودان ومن غرب إفريقيا ومن جنوب السودان، إذا تمكن أبناء السودان من تجاوز الأزمة السياسية المعقدة ليصبح السودان ممراً للتجارة من وسط وغرب إفريقا إلى آسيا وأوروبا بدلاً مما يتعرض له الآن من هجرات غير شرعية، بسبب الأوضاع في إفريقيا الوسطي وفي مالى نيجيريا والنيجر. يتم ذلك في ظل تآمر إقليمي ودولي لتهجير الأقليات من هذه الدول إلى دارفور والسماح لهم بإحتلال الأرض بعد إبعاد سكانها الى معسكرات النزوح. إن التنمية الشاملة هي المدخل للإستقرار فى دارفور وفى المناطق الأخرى. ولضمان إستقرار الأوضاع فى السودان علينا جميعاً التخلي عما نردده من أوهام، والاستعداد لبناء دولة عصرية قادرة على تحقيق تطلعات مواطنيها وعلى أن تلعب دوراً إقليمياً فى المجال الإقتصادي بعد أن أصبح الاقتصاد فى كل الدنيا قاطرة للسياسية.