مستقبل العلاقات بين السودان والمملكة العربية السعودية (3)

د. إبراهيم الأمين
مجتمع الخمس:
في اجتماع نخبة قيادات العالم في فندق فيرمنت بمدينة سان فرانسسكو فى خريف 1995م, تحدث المجتمعون عن مجتمع الخمس “20%” فى القرن المعولم الجديد. بمعنى أن يكون لخمس سكان العالم عمل يدر عليهم دخلاً يسمح بمستوى معيشي محترم.  أما البقية من البشر الـ”80%” الفائضين عن الحاجة فسينضمون إلى جحافل العاطلين. ولمخاطبة هذه القضية اقترح بريجنسكي مستشار الرئيس الأمريكي الأسبق للأمن القومي، وأبرز المشاركين فى الاجتماع التاريخي, أسلوباً جديداً ومبتكراً لسد رمق الفائضين عن الحاجة وتسليتهم حتى يواصلوا العيش فى عالم الأحلام، هو المعادلة المبنية على بعض المساعدات الاقتصادية التي قد تسد الرمق بالإضافة إلى نشر ثقافة “الماكدونالد” والديزني لاند، في ظل أممية رأس المال التى يتربع على عرشها كبار المضاربين فى بورصات العملة والأوراق المالية. هذا ما تحدث عنه مدير صندوق النقد الدولي أيام الأزمة المالية في المكسيك، إذ قال: إن العالم أصبح في قبضة هؤلاء الصبية، وهو يعني المتأجرين في العملة على المستوى الدولي. وهم لا يملكون قوة مالية فحسب، بل قوة سياسية قادرة على إسقاط نظم قوية. وأضاف أنهم قادرون على اتباع أساليب مختلفة تمكنهم من السيطرة على القرار الاقتصادي، في بعض دول العالم الثالث.
هنا وبعيداً عن الجدل حول نظرية المؤامرة لدول العالم الكبرى وسائلها المختلفة المشروعة وغير المشروعة، تسعى هذه الدول الكبرى للتحكم في اقتصاديات العالم خدمة لمصالحها. ربما لهذا السبب تشجع تحول المجتمعات العربية والأفريقية إلى مجتمعات استهلاكية، بدلاً من أن تكون مجتمعات منتجة وقادرة على التنافس. علماً بأن التطور الذي حدث في مجال الاقتصاد، اقتصاد المعرفة يقوم أساساً على الإنتاج والإبداع ويتناقض مع الاستهلاك. ولا معنى للاستهلاك دون الإنتاج. في النظام المعلوماتي الحديث فإن اقتصاد المعرفة يقوم على إنتاج نظم المعلومات وتسويقها واعتمادها مورداً من موارد الدخل القومي. ونجد عدة دول منها الهند نجحت في إنتاج رأس مال فكري، إذ استطاعت أن تستأثر بأكثر من 5% من سوق البرمجيات العالمي. ويشغَّل هذا القطاع أكثر من ربع مليون شخص. هنا يجب أن نعترف بأن الدول العربية جميعها، بما في ذلك الدول المنتجة للبترول، لم تستطع خلق اقتصاد معرفة، مع وجود محاولات محدودة. والدليل أن الدول العربية صنفت من قبل تقارير البنك الدولي ضمن المستوى البدائي، لأنها لم تستثمر بجدية وصرامة في صناعة العقول والكفاءات، واعتمدت الدول المنتجة للنفط على الكفاءات الأجنبية. هنا يجب أن ننتبه إلى نقطة على درجة عالية من الأهمية وهي أن العبور إلى اقتصاد المعرفة يتطلب تغييراً في مستوى الذهنيات ومستوى التفكير. ففي كتابه الشرق الأوسط الجديد تحدث شيمون بيريز عن مستقبل منطقة الشرق الأوسط، إذ قال: إن المستقبل يعتمد على العقل الإسرائيلي والموارد المالية والأيدي العاملة العربية. هذا ما تخطط له الدولة العبرية.  وفى الدول العربية اليوم جدل كثيف بعد إنهيار أسعار النفط، عن العدول عن الدولة الرعوية، والتفكير فى دولة المشاركة لا دولة الرفاه. وتشير الأرقام إلى أن دول الخليج سوف تفقد نصف عائداتها النفطية، أي ما يقدر ب 350 مليار دولار سنوياً، إذا ما ظلت أسعار النفط عند مستوياتها الحالية. تراجع أسعار النفط مرتبط بما حدث من تطور غير مسبوق فى مجال استخراج النفط الصخري فى الولايات المتحدة، بفضل تقنية الحفر الأفقي والتكسير الهيدرولوجي. ويتوقع الخبراء أن يكون للنفط الصخري تأثير بالغ على خريطة الطاقة العالمية. لذلك على الدول التي تعتمد أساساً على عائدات النفط التفكير في تنويع قاعدة نشاطها الاقتصادي, لأسباب كثيرة منها:
· التراجع في قدرة منظمة الأوبيك على التحكم في تقلبات أسعار النفط.
· أبرمت الصين والهند وروسيا وإيران إتفاقيات فى قطاع الطاقة بقيمة مالية بلغت 500 مليار دولار لتصبح منظمة شنغهاي قادرة على التصدي لمناورات الولايات المتحدة التي تسعى للسيطرة على موارد الطاقة في بحر قزوين.
· الاتجاه للاستثمار في مجال الطاقة البديلة: الوقود الحيوي والطاقة الشمسية..الخ، فالمغرب العربي يسعى لبناء خمسة محطات عملاقة للطاقة الشمسية، مما يجعله أحد أهم منتجي الطاقة النظيفة بحلول عام 2020م. ويبحث الاتحاد الأوربي إمكانية الاستفادة من الطاقة النظيفة، ففي عام 2008م وعدت مؤسسات أوربية بأن تسعى لإطلاق مشروع ضخم لتوليد الطاقة الشمسية في الصحراء بهدف التصدير لأوروبا تحت اسم ديزرتاك.
· منذ سبعينات القرن الماضي حذرت أصوات خليجية من مغبّة التعويل المطلق على اقتصاد النفط، باعتباره اقتصاد غير دائم. وفي هذا الإطار ظهر مشروع تنويع مصادر الدخل في المملكة العربية السعودية في العام 1970م. وانتبهت الإمارات العربية لأهمية زيادة في عائدات القطاعات غير النفطية في الناتج المحلي إلى  حوالي 400 مليار دولار سنوياً. وشهدت إمارتي أبوظبي ودبي نمواً كبيراً فى قطاعات الصناعة والسياحة والمال والتجارة. ويحظى مشروع الأمن الغذائي العربي بأولوية قصوي, فهو المخرج الوحيد من أزمة الغذاء فى العالم العربي. وهنا نشير إلى أهمية الدخول في شراكة ذكية توظف فيها الموارد المالية العربية في الاستثمار الزراعي في السودان.
· صحيفة الديلي تلغراف البريطانية، تحدثت عن توقع بعض الخبراء بأن تتضاعف أسعار الغذاء ثلاثة مرات، لتنامي الطلب عليها من دول كثيرة، منها دول شرق آسيا التى يطلق عليها مصطلح الأسواق الناشئة التي بدأت تشهد نمواً اقتصادياً وتحسناً في الأحوال المعيشية. إضافة إلى النمو المتوقع في عدد السكان الذي قد يصل إلى أكثر من تسعة مليار نسمة قبل عام 2050م. كما أن مؤسسة أوكسفارم تتوقع أن تشهد أسعار الغذاء في العالم ارتفاعاً كبيراً سيزيد من معاناة الدول الفقيرة. ولمخاطبة قضايا الأمن الغذائي بأسلوب علمي اهتمت الدراسات الاقتصادية باقتصاد الغذاء. وهو العلم المختص بدراسة الظواهر والقوانين الاقتصادية ذات الصلة بالموارد الغذائية المختلفة، وتفسيرها من حيث الإنتاج والتوزيع بغية الاستثمار الأمثل لهذه الموارد. هنا تبرز أهمية الشراكة الاستراتيجية في مجال الغذاء بين السودان والمملكة العربية السعودية. فالسعودية في عام 2008م بدأت في تقليص زراعة القمح بعد إنتاج كميات كبيرة من المحصول، بسبب أن زراعة القمح استنزفت كميات كبيرة من المياه الجوفية. ومن هنا جاءت فكرة الاستثمار الزراعي فى الخارج، حيث شكلت المملكة العربية السعودية لجنة توصلت إلى اتفاقيات مع إيطاليا وفيتنام والسودان وأثيوبيا وأوكرانيا. وتم إنشاء شركة سعودية متخصصة فى الاستثمار الخارجي، برأس مال قدره ثلاثة آلاف مليار ريال. وعن الاستثمار في السودان تحدث د.عبد الله الحريجي مؤكداً بأن السودان يتمتع بإمكانات زراعية ضخمة. وتواجه السودان اليوم تحديات الإستقرار الداخلي، وتهالك البنية التحتية، والنزاع حول المياه مع دول الجوار، هنا يبرز التحدي أمام السودان. ولمواجهة هذا التحدي، أعدت مجموعة من خيرة  من علماء السودان وثيقة على درجة عالية من الأهمية بهدف صياغة السياسات الزراعية وإحداث تحول نوعي في القطاع الزراعي، من قطاع تقليدي ينتج بمعدلات الكفاف في كثير من محاوره، إلى قطاع اقتصادي نشط ومتطور، لتحقيق إنتاج مرن ومستدام. الاستثمار في القطاع الزراعي القائم على المعرفة، يتم بالتحرر من الخيارات الظرفية والمحلية، وبالتفكير في استراتيجيات طويلة المدى تعتمد على بناء عقول جديدة تفكر بطريقة مختلفة، وقادرة على إستيعاب الواقع وعلى اقتراح الحلول العملية للمشاكل التي تواجه القطاع الزراعي، تمهيداً للشراكة الاستراتيجية مع المملكة العربية السعودية والخليج في مجال إنتاج الغذاء.
التيار
مارس 2015
Exit mobile version