مستقبل الحوار بين السودان أوروبا مابين الثابت والمتغير

محمود حسين سري

في الأسابيع الماضية ضجت الوسائط الإعلامية والصحفية والسياسية السودانية بأخبار ومقالات كشفت عن لقاء محتمل بين قيادة الجيش السوداني وأجهزة الإتحاد الأوروبي في بروكسل، والقيادات الأمنية والدبلوماسية في باريس و جنيف.
هاجم عدد كبير من الصحفيين هذه اللقاءات التي قالوا إنها تتم في الخفاء مما أدى إلى تأجيل هذه الاجتماعات إلى أجل غير مسمى. لقد كانت هذه اللقاءات فرصة مهمة وتاريخية ونجاح كبير للجيش السوداني في الوصول إلى قلب أوروبا بعد سنوات من التهميش والإهمال والتجاهل و الاستبعاد الاوروبي.
إن الثابت في السياسة الخارجية الأوروبية هو أنها ترى قوات الدعم السريع، التي شاركت في إعادة صياغتها وإصلاحها واستخدامها في مكافحة الهجرة من أفريقيا الشرقية، بأنها تمثل مستقبل للقوات المسلحة السودانية وتضمن انتقال السودان للحكم المدنى، وأنها ستنهي وتحارب عودة الإسلاميين للسطة والحكم، و أن هذه القوات ستعيد العدالة والديمقرافية للسودان بتمكين أهل دارفور والنوبة المهمشين من الحكم طوال 69 عاما هى عمر السودان المستقل !!
ولكن المتغير الجديد في السياسة الخارجية الأوروبية ضد قوات الدعم السريع هو حجم الانتهاكات والفظائع التي ارتبكتها هذه القوات، وحاولت أوروبا غض الطرف عنها طوال سنوات الحرب، لكن ذلك أصبح مستحيلاً في ظل تنامي المظاهرات الشعبية والحملات في السوشيال ميديا التى تدين وتفضح هذه الانتهاكات.
أما المتغير الثاني في السياسة الخارجية الأوروبية ضد الدعم السريع، فهو فشل الأخيرة في حسم الحرب على الأرض و عدم قدرتها على إدارة الحياة المدنية في المناطق التى تسيطر عليها حيث فر أغلب السكان إلى المناطق التى يسيطر عليها الجيش السوداني، وأصبحت المناطق التى تسيطر عليها قوات الدعم السريع مهجورة ومرعبة.
و المتغير الثالث في السياسة الخارجية الأوروبية هو امتداد آثار هذه الحرب إلى التأثير على حلفاء أوروبا في المنطقة (تشاد وإثيوبيا ومصر والسعودية)، فهذه الدول ضجت من عبء الحرب على أمنها واقتصادها وتشابك حدودها وشواطئها مع السودان والتي قد تشتعل في أي لحظة كما أن دولاً مثل روسيا والصين وإيران باتت تستخدم الصراع في السودان لإعادة ضبط ميزان القوة في المنطقة.
كل هذه المتغيرات تبرز تغيراً في الموقف الأوروبي تجاه الوضع في السودان، مما يفسر الزيارات الأوروبية المتكررة للسودان من مبعوثيين نرويجيين وبريطانيين وألمان وفرنسيين وإيطاليين وإسبان ومن الإتحاد الأوروبي. وقد أوردت الصحف في نوفمبر الماضي أن بعثة الاتحاد الاوروبي للسودان، والتي تعمل من القاهرة، قامت بعقد اجتماعات للدول المتشابهة والتى تضم دول الاتحاد الأوروبي السبعة والعشرون واستراليا وكندا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية وكوريا الجنوبية واليابان، وقد نتج عن ذلك الاجتماع قرار مجلس وزراء خارجية الإتحاد الأوروبي، في 20 نوفمبر ، والذي طالب لأول مرة بلقاءات مباشرة بين دول الاتحاد الاوروبي مع الجيش السودانى وقوات الدعم السريع.
من هنا، يبدو أن الجيش السوداني إلتقط الخيط ووافق على لقاء الإتحاد الأوروبي في قلب داره، لكن ذلك تمت مواجهته من قبل الرأي العام السوداني بشكل غير موفق في تقديري.
إن الدبلوماسية كالصلاة، فيها الجهر و فيها السر. فمن حق السلطات السودانية بمختلف مستوياتها أن تلتقي بالغرب المقسم (اوروبا العجوز وأمريكا الجديدة بقيادة ترامب) وأن تضغط بأجندة السودان الوطنية وتشرح طبيعة الصراع الدائر في السودان وتضع الحلل على الطاولة وتفضح جرائم الدعم السريع والدول التى تموله وتدعمه مالياً وسياسياً ودبلوماسياً، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي نفسها.
و من حق الجيش السودانى أن يذهب إلى أوروبا ويعرض للأوربيين أخطاءهم وجرائمهم التى ارتكبوها في السودان بالصمت، وما قدموه من دعم للدعم السريع وحواضنه السياسية.
من المهم جداُ للحكومة في السودان، أن تبدأ حواراً حقيقياُ مع أوروبا (حوار تقوده الخارجية السودانية بمشاركة من الجيش والمخابرات) حوار يشرح الوضع على الأرض و يوجه الموقف الأوروبي والدولي للأزمة السودانية وإيجاد حلول ممكنة للفترة القادمة. خصوصاً أن معظم السفارات الأوروبية غادرت السودان منذ أبريل 2023 وهي تعمل من عواصمها في أوروبا أو من دول أفريقية في القرن الأفريقي، حيث فقدت الدول الغربية الكثير من علاقاتها وشبكة اتصالاتها وباتت تعتمد بشكل أساسي على تقارير المنظمات الدولية ومنظمات المجتمع المدني التي أصبحت واجهة للحواضن السياسية للدعم السريع وقوى الحرية والتغيير.
من الواضح إن الأوروبيين بدأوا في التوجه بشكل جديد تجاه الحكومة وأدركوا أخيراً أن مشروعات صمود وتقدم وتأسيس وقوى الحرية والتغيير لا تمثل كل السودانيين وأن الجيش السوداني صخرة قوية لا تقهر وأن الشعب السوداني ملتف حول قياداته، وأن الدعم السريع فقد التعاطف الشعبي بجرائمه وأن الحرب في السودان تحولت إلى تصفية حسابات إقليمية ودولية، وأن الدعم السريع فقد الاتصال بين قياداته وجنوده على الأرض وتحول إلى فوضى عصابات ومليشيات لا تهدد السودان فحسب بل القرن الأفريقي بأكمله.
الغرب الآن ينتظر مبادرة من الجيش السودانى لايجاد حل سياسي معتدل ومعقول ومتزن ومتناسب، يوازن بين المصالح الوطنية و يعالج القلق الدولي من عودة حكم الإسلاميين للسودان وفتح الاستثمارات في السودان للغرب وتحجيم الدور الروسي والصيني والايراني.
إن الفرصة الحالية إذا لم تستغل جيداً فسيتوجه الغرب إلى مناقشة وتدويل ملف السودان في مجلس الأمن الدولي من زاوية إرسال قوات دولية واستخدام ذريعة الملف الإنساني وحماية المدنيين في السودان وذريعة انتهاكات حقوق الانسان
على صانع القرار في السودان في مؤسساتنا العسكرية والأمنية والدبلوماسية والسياسية إدارك ماهو ثابت ومتغير في سياسات الدول الأوروبية تجاه السودان والأخطاء المتكررة التى تقوم بها هذه الدول في السودان.
لقد حددت قمة الاتحادين الأوروبي والأفريقي الشهر الماضى في أنغولا أكثر من 11 مجال للحوار الأوروبي الأفريقي. والسودان قادر على تقديم مشروع متكامل يحقق شراكة أوروبية في السودان. فمواضيع التعاون متعددة من: مكافحة الهجرة إلى مكافحة الإرهاب إلى مكافحة الجريمة إلى حفظ السلام في أفريقيا والعالم إلى الأمن الغذائى إلى تغيير المناخ إلى تمكين النساء والشباب إلى الطاقة النظيفة إلى البحوث والتعليم العالي إلى مكافحة الفساد والحوكمة إلى إدارة المياه، ومواضيع أخرى حددتها القمة.
ولتعلم القيادة السودانية أن حجم الشراكة بين مصر والاتحاد الأوروبي وصلت إلى 7 مليار يورو، وحجم الشراكة بين الإتحاد الأوروبي وجنوب أفريقيا وصل إلى 12 مليار يورو وحجم الشراكة بين الإتحاد الأوروبي و ناميبيا وصل إلى مليار ونصف يورو وحجم الشراكة بين الاتحاد الأوروبي والمغرب وصل إلى مليار يورو وحجم الشراكة بين الإتحاد الاوروبي و موزمبيق وصل إلى ملياري يورو، وهذه المساعدات لا تضم الاستثمارات وحجم العلاقات الثنائية مع الدول الأعضاء السبعة وعشرون، بينما مازال السودان يتقوقع في مبلغ مساعدات لا يتعدى الـ400 مليون يورو 90% منها تذهب إلى المساعدات الانسانية التى لا تسمن ولا تغني من جوع ، فهي عبارة عن مشروعات كرتونية للتدريب وبناء القدرات تستفيد منها منظمات المجتمع المدني السودانية والمنظمات الإقليمية في تدريب طبقة مجتمع مدني سوداني تعارض وتضعف الدولة والمؤسسات في السودان.
إن الخلل الموجود في العلاقات بين السودان والدول الغربية هو نتيجة سياسة اللا حوار واللا مواجهة، و سياسة عدم استغلال المتغيرات و قلبها إلى ثوابت جديدة وأسس قوية تبنى وتوجه و تحدد علاقات السودان مع الغرب.

Exit mobile version