د. محمد حسب الرسول
في جلسة مجلس الأمن الدولي المنعقدة يوم الأثنين الماضي، قدمت الحكومة السودانية عبر رئيس وزرائها كامل إدريس، مبادرة وطنية شاملة، تهدف إلى إنهاء الحرب المستمرة في السودان لأكثر من ألف يوم، وإلى فتح مسار سياسي جديد يقوم على مرجعية وطنية سودانية، بعيداً من المبادرات الخارجية التي أرادت الولايات المتحدة الأميركية والقوى الدولية والإقليمية التي تقف خلف الحرب من إدارة الحرب لا إنهائها.
وأكد إدريس أن المبادرة تمثل خياراً سودانياً خالصاً للخروج من الأزمة، محذراً من أن استمرار الحرب بات يشكل تهديداً وجودياً للدولة، ويقود إلى تفكيك مؤسساتها، ويضاعف حجم المأساة الإنسانية في البلاد.
*عناصر المبادرة:*
تشكلت مبادرة الحكومة السودانية من عناصر رئيسة متكاملة، شملت أبعاداً سياسية وأمنية وإنسانية ومجتمعية، تهدف إلى إنهاء الحرب واستعادة السيادة الوطنية، وضمان انتقال سلس نحو حكم وطني مستقر، وفقاً للآتي:
– وقف شامل وفوري لإطلاق النار في جميع أنحاء البلاد، بالتوازي مع انسحاب “الدعم السريع” من المدن والأعيان المدنية والبنى التحتية الحيوية، تحت إشراف دولي وإقليمي، لضمان الأمن والاستقرار ولحماية المدنيين وتهيئة المناخ لعملية وطنية متعددة الأبعاد.
– تجميع عناصر “الدعم السريع” في معسكرات يتفق عليها، وتجريدها من السلاح، وإنهاء دورها العسكري والسياسي، بما ينهي وجود أي قوة موازية للدولة ومؤسساتها، وبما يمهد لتنفيذ برامج نزع السلاح وإعادة الدمج “DDR”بشكل مهني منظم.
– وضع إطار موحد للقوات المسلحة، يضمن واحديتها، ويحصر السلاح بيدها، ويعزز دورها في حماية البلاد وسيادتها واستقلال قرارها الوطني.
– تسهيل الوصول الإنساني وعودة النازحين واللاجئين إلى مناطقهم الأصلية، بشكل طوعي وآمن، مع تنفيذ برامج إعادة الإعمار في المناطق المتضررة، لضمان استقرار المجتمعات المحلية الأصيلة، واستعادة التوازن الديموغرافي.
– إطلاق حوار وطني شامل، بمشاركة كل القوى الوطنية السياسية والمجتمعية، لا يستثنى منه غير الذين تورطوا في جرائم الحرب وانتهاكاتها الجسيمة، بهدف التراضي على ترتيبات انتقالية تؤسس لحكم الشعب والمشروعية الانتخابية، عبر انتخابات عامة حرة ونزيهة تحت إشراف دولي.
– ضمان وطنية الحلول، وترسيخ الإرادة السودانية المستقلة، بعيداً من أي وصاية أو أجندة خارجية، لضمان صناعة حاضر البلاد ومستقبلها وفق المشيئة والمصالح السودانية.
*المرتكزات الأربعة الأكثر حساسية:*
تطرح مبادرة حكومة السودان، أربعة مرتكزات رئيسة، تمثل أخطر نقاط الاصطدام مع القوى الخارجية التي تقف وراء الحرب، وتكشف في الوقت ذاته وجهاً أبرز من أوجه طبيعة الصراع الحقيقي في السودان:
أولاً: جمع عناصر “الدعم السريع” وتجريدها من السلاح، وإنهاء دورها العسكري والسياسي، وهو إجراء يستهدف تفكيك البنية المسلحة التي قامت عليها الحرب، ويمنع استمرار المليشيات كأدوات وظيفية خادمة للمشروعات الأجنبية وضامنة لنفوذ الدول الخارجية في الفضاء السوداني.
ثانياً: عودة السكان الأصليين إلى مواطنهم، بعد أن هجّرتهم “الدعم السريع” منها، وتمثل هذه العودة ترياقاً مضاداً لمشروع التغيير الديموغرافي الذي يمثل هدفاً من أهداف استراتيجيا الحرب على السودان وفيه، ومثلما وقفت القوى الغربية ضد حق عودة الفلسطينيين إلى فلسطين، فإن القوى ذاتها تقف ضد عودة السكان الأصليين إلى مواطنهم، وتعارض استعادتهم حقوقهم التاريخية، كما تعارض كل عمل من شأنه تأمين التوازن الديموغرافي، خصوصاً في دارفور.
ثالثاً: التحوّل الديموقراطي وإعادة الأمر إلى الشعب عبر الانتخابات الحرة، وهو مسار يجد رفضاً كذلك من الخارج، لأنه يُضعف بشكل مباشر جداً مصالح القوى الأجنبية التي هي على يقين من أن الانتخابات النزيهة تفضي إلى صعود القوى الوطنية المتبنية مبادئ السيادة والاستقلال الوطني، مقابل انعدام فرص الجماعات المتحالفة مع الخارج في تحقيق أي نصر انتخابي يتيح لها الوصول إلى السلطة.
رابعاً: وطنية الحل، هو الآخر أمر مرفوض من قوى الحرب الخارجية والداخلية، لأن الحلول الوطنية المنطلقة من مبادئ ومصالح وطنية تتعارض مع فكرة ومشروع الوصاية والهيمنة و”الاستعمار الجديد”.
وبهذا، تتجاوز حكومة السودان بمبادرتها كل الأجندات والمبادرات الخارجية، سواء كانت دولية أو إقليمية، وهي تطوي مبادرة الآلية الرباعية فاقدة السند والمشروعية، خصوصاً أن تلك المبادرات صُممت لإدارة الحرب وإطالة أمدها، حتى تضمن هيمنتها على السودان بعد إنهاكه وتفكيك عناصر القوة فيه.
*الأسئلة الصعبة:*
طُرحت المبادرة السودانية في لحظة حاسمة، حيث أصبح استمرار الحرب تهديداً وجودياً للدولة ولوطن اسمه السودان، عبر إنهاك شعبه، واستنزاف طاقاته، وإضعاف مؤسساته، وفرض وقائع ديموغرافية وسياسية بقوة العدوان العسكري والضغوط الخارجية. وفي هذا السياق المنهك، تمثل مبادرة الحكومة السودانية، خطوة سياسية متقدمة نحو استعادة القرار الوطني، ونقل البلاد من منطق إدارة الصراع وتدويره خارجياً، إلى مسار إنهاء الحرب برؤية وطنية مستقلة، يكون فيها وقف التدخل الخارجي شرطاً تأسيسياً لتشكيل الحاضر وصناعة المستقبل وفق إرادة شعبها.
وبطرح المبادرة أمام مجلس الأمن، وضعت الحكومة السودانية المجتمع الدولي، بكل أطرافه الإقليمية والدولية، أمام اختبار مصداقية حقيقي: هل يقف الخارج مع الحلول الوطنية المكرسة للاستقلال والسيادة والاستقرار، أم سيظل رهين مشاريعه الاستعمارية؟ وفي المقابل، يظل السؤال الأشد إلحاحاً مطروحاً في الداخل السوداني نفسه: هل تتمسك الدولة بهذه المبادرة بوصفها خياراً سيادياً جامعاً لإنهاء الحرب، أم تتساوق مع الضغوط الإقليمية والدولية التي ترغب في إدارة الحرب لا حسمها؟
