ما وراء التحركات السعودية

عادل الباز

1
كيف يمكن فهم التحركات السعودية الأخيرة، وما الجديد الذي دفعها للتباعد بشكل حاسم عن الخط الإماراتي؟ هذا السؤال مهم لفهم الواقع المتحرك في قضية السودان.

2
نحتاج أولاً لقراءة هذه التحركات على ضوء المتغيرات التي حدثت مؤخراً في الملف السوداني.
قاد لهذه التطورات اولا انكشاف الدور الإماراتي في العدوان على السودان، ذلك الدور الذي ظل على الدوام ومنذ بدايات الحرب يشهد تغبيشاً وتدليساً من الدبلوماسية الغربية التي باعت ضميرها الإنساني لأجل مصالحها مع الإمارات واستثماراتها المليارية في دول الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى مواقف المنظمات الأفريقية وكثير من الدول التي حاولت تغطية الدور الإماراتي بالصمت وتبرير جرائم المليشيا ومساواتها بالجيش السوداني.
انكشف الدور العدواني الذي لعبته الإمارات في حرب السودان ولم يعد ممكناً تغطيته بالبيانات والمواقف المائعة، وقد ساهمت تغطية الصحافة الغربية في كل مؤسساتها الكبرى في نزع ورقة التوت التي لم تكف لتغطية الدعم الإماراتي المتدفق من دول الجوار لتغذية الحرب؛ مما ألجأ الإمارات للخروج من خانة الإنكار المطلق إلى التبرير الفج لدعمها اللامحدود للمليشيا، ثم التحرك قدماً من حيز الصمت على جرائم المليشيا إلى فضاء الإدانة العلنية لتلك الجرائم في محاولة للنأي بنفسها عن تلك الجرائم وتحسين صورتها أمام العالم، قفزاً لمحاولة لعب دور الوسيط “الخير” الذي يسعى للسلام. انكشفت ألاعيب الإمارات تماماً، ونزع عنها أي غطاء دبلوماسي أو إنساني.

3
المتغير الثاني هو انكشاف طبيعة المليشيا الإجرامية، التي ظهرت باكراً منذ الأيام الأولى لاندلاع الحرب، منذ أن ارتكبت جريمة إبادة المساليت في الجنينة. ولكن رغم الإدانات الدولية بدا واضحاً أن هناك من يحاول التعمية على تلك الجرائم. لكن بعد سقوط الفاشر والمجازر التي ارتكبتها المليشيا لم يعد ممكناً التغطية على طبيعة هذه القوى العدوانية الفاشية التي تقتل الإنسان بلا سبب، ولا يكبحها شيء من ضمير أو أخلاق أو قانون.
تصاعدت الإدانات والبيانات، وظهرت مواقف عديدة تندد بالمليشيا الإجرامية من البرلمان الأوروبي والأسترالي، ومجموعة من أعضاء الكونغرس والبرلمان البريطاني، إضافة إلى تغطية كثيفة في الميديا الغربية ووسائل التواصل الاجتماعي أظهرت وحشية وفظاعة جرائم المليشيا بحيث لم يعد هناك من يجادل في إجرام تلك المليشيا، حتى الكفيل!!

4
متغير ثالث هو حراك الجاليات السودانية بالخارج، وهو الحراك الذي جذب بحيويته وكثافته الانتباه العالمي لقضية السودان، وحرك الدوائر الدبلوماسية في مؤسسات في الغرب للاستماع لصوت آخر هو صوت الضحايا، الذي طالما تجاهلته وصمتت آذانها عنه.

5
متغير رابع هو صمود الجيش المدعوم من الشعب، رغم خذلان الأشقاء والجيران، ورغم المعاناة وقلة الموارد، إلا أن الجيش ظل صامداً على مواقفه في قضيتين أساسيتين:
الأولى تتعلق بموقفه الرافض لأي دور إماراتي في تسوية الحرب في السودان، وتبعاً لذلك رفض مشاريع التسوية الظالمة المطروحة من الرباعية وغيرها.
القضية الثانية رفضه إتاحة الفرصة للمليشيا للعودة للعب أي دور سياسي أو عسكري، ثم ثباته على موقفه المُعلن في خارطة الطريق التي قدمها للأمم المتحدة منذ أكثر من عام.

6
المتغير الخامس هو المخاوف من تمدد نيران الحرب إلى دول الجوار، وخاصة بعد التقدم الذي أحرزته المليشيا في أكثر من موقع في غرب كردفان، وبعد نجاحها في الاستيلاء على الفاشر. والخوف الأكبر أن تصل تلك النيران إلى البحر الأحمر، الذي تمر عبره 40% من تجارة السعودية و13% من التجارة العالمية، مع سعي الإمارات لجعل البحر الأحمر – عبر الاستيلاء على الموانئ – بحراً إماراتياً خالصاً. وذلك يعني أن السعودية على مرمى حجر، خاصة وأن أكبر استثمارات السعودية في منطقة نيوم التي لا تبعد أكثر من 1200 كيلومتر عن سواحل البحر الأحمر في السودان.

7
هناك متغير سادس خارجي يتمثل في محاولة الإمارات التمدد في اليمن بافتعال تحركات عسكرية من قوات المجلس الانتقالي المدعوم إماراتياً للاستيلاء على محافظة حضرموت كلها، مما اعتبره المراقبون رداً على محاولة السعودية احتكار حل المسألة السودانية بعيداً عن الرباعية.

8
وسط زخم هذه المتغيرات جاء لقاء محمد بن سلمان مع الرئيس ترامب؛ وهو اللقاء الذي وضع فيه الأمير محمد بن سلمان الملف السوداني بتفاصيله على طاولة الرئيس ترامب، ومثل ذلك نقلة نوعية في الحراك الدبلوماسي الخاص بالحرب في السودان. يمكن فهم التحركات السعودية على ضوء هذه المتغيرات ،  اذ بدات السعودية  دعم الحكومة السودانية الشرعية دبلوماسياً، ابتداءً من لقاء ترامب، ثم البيانات التي تؤكد دعم مؤسسات الدولة السودانية، إلى لقاء الأمير محمد بن سلمان بالرئيس البرهان أمس، ثم الخطوة الأبرز بجمع مبعوث ترامب مسعد بولس في اجتماع مع الرئيس البرهان في الرياض أمس؛ مما يشي بأن الرباعية قد دُفنت تماماً، وتأسست على أثرها منصة ثلاثية سودانية/سعودية/أميركية.
كان استبعاد الإمارات من دور الوسيط المخادع أحد مطالب السودان، وبدفن الرباعية انحلت هذه العقدة، وتبقت عقدة واحدة لنصبح على ضفة أخرى من الوضع الحالي، وذلك بتفعيل إعلان جدة الذي وقّعته عليه المليشيا وشهد عليه المجتمع الدولي بما فيه السعودية وأميركا.
من التغييرات الواضحة في الموقف السعودي انعكاسه على سياسات القنوات الفضائية والإعلام السعودي عموماً، وخاصة رؤساء تحرير الصحف والمؤثرين السعوديين في السوشيال ميديا، إضافة إلى أن السعودية بعد لقاء ترامب مدت يدها بدعم ملحوظ للسودان في كافة المجالات.!!!

9
تتجه السعودية الآن لتسوية خلافاتها مع إيران بعد الوساطة الصينية، سيقود ذلك لإغلاق جبهة اليمن بعد الاتفاق مع الحوثيين، مما يعني أن السعودية ستتفرغ لملف السودان، الذي يبدو أنامريكا قاد إعادته إلى الرياض، مما يجعل استمرار الحرب والإصرار الامارات على إنفاذ أجندتها في مواجهة مباشرة  مع السعودية، وهو ما لا تقدر عليه الإمارات، خاصة أن الخليج كله سيقف مع السعودية في مواجهة طموحات الإمارات الإمبراطورية، وقد بدا ذلك جلياً في اجتماع مجلس التعاون الخليجي نهاية الشهر الماضي.
مما يعزز الدور السعودي مقبوليته من كافة الأطراف الإقليمية والدولية، ومن ترامب خاصة، ومن الجيش والشعب السوداني، مما يفتح التوقعات والآمال في أن قيادة الأمير محمد بن سلمان يمكن أن تأتي بنتائج مختلفة يتجاوز بها عُقَد الرباعية وتآمر الإمارات.

10

مجمل هذه المتغيرات تضع التحركات السعودية في إطار تحول استراتيجي واسع يتجاوز حدود الملف السوداني نفسه. فالسعودية، التي أعادت تشكيل موقعها في الإقليم بعد المصالحة مع إيران وترتيبات البحر الأحمر واتساع استثمارات “نيوم”، باتت ترى أن استمرار الفوضى في السودان لم يعد مجرد أزمة إنسانية أو سياسية، بل تهديد مباشر لبنيتها الاقتصادية وأمنها القومي. كما أن انكشاف الدور الإماراتي في أكثر من ساحة عزّز لدى الرياض قناعة بضرورة الإمساك بزمام المبادرة بنفسها. وفي ظل قبول دولي وإقليمي واسع بالدور السعودي، ومع وجود إدارة أميركية جديدة أكثر انسجاماً مع أولويات ولي العهد، يبدو أن الرياض تستعد لفتح فصل جديد قد يعيد رسم توازنات المنطقة، ويضع السودان على طريق مختلف جذرياً عما عرفه في مرحله “التيه” او ماسمى  بمرحلة بالرباعية.

 

Exit mobile version