عبداللطيف البوني
بسم الله/حاطب ليل/٢٠ ديس ٢٠٢٥
القوى الصلبة مثل المساحة والمناخ والتضاريس والقدرات الاقتصادية والقدرات العسكرية والذي منه تبني دولة …القوى المرنة مثل التعليم والإعلام والدبلوماسية والذي منه تبنى دولة … واذا احسن توجيهها يمكن أن تسهم في بناء الأمة. ..القوى الناعمة مثل الغناء والتشكيل والدراما والرياضة وكل الذي منه تبنى أمة ….
دولة السودان التي صنعت صناعة… من لدن محمد علي باشا ١٨٢١ لم يكتمل بناء الأمة فيها… لا بل حتى الدولة لم تبثت خارطتها حتى الآن …فدولة كتشنر التي اسستها اتفاقية اللورد كرومر/وبطرس غالي ١٨٩٨ ..غير دولة محمد علي باشا المشار إليها أعلاه …في عام ٢٠١١ انشطر السودان الي دولتين …والآن اليوم العليا دا تهتز خارطة دولة النص الفوق والمقص يتراقص فوقها.
….وانا ما بفسر وانت ما تقصر …
تلك الارتدادات السياسة أثرت على بناء الأمة ولكنها لم توقف مسيرة بنائها .. وذلك لأن القوى المرنة لم تتوقف ..خاصة الغناء .. فالان في دولة جنوب السودان الفنانين الذين لديهم (عدادات) هم الذين يغنون اغنية السودان القديم …حكي لي أحد الأساتذة الذين ذهبوا لجنوب السودان في سبعينات القرن الماضي لاقامة دورة تدريبية لمعلمي اللغة العربية …انهم ووجهوا بعراقيل سياسية… ولم تنجح الدورة .. وفي ذات الايام ذهب إلى أحد أندية جوبا ..فظهر الفنان وردي في التلفزيون وهو يغني (يا بلدي يا حبوب) فإذا برواد النادي يتركون الكوتشينة والضمنة والونسة واخذوا يغنون مع وردي …فختم الاستاذ الحكاية بالقول قلت في نفسي ياريت جهد الدورة لو صرفناه في إحضار بعثة فنية …
قال لي أحد القادمين من دولة جنوب السودان ان اللغة الرسمية هناك هي اللغة الانجليزية ..لغة المكاتب ولكن لغة التخاطب ولغة السوق والشارع هي اللغة العربية دون منازع .. مش كده وبس بل ان عربي جوبا ذو الضمائر المنفصلة (انا اخو بتاع انت ) تراجع لكي تحل محله لغة عربية فصحى (انا اخوك ) وكل هذا حدث بعد الانفصال
إذن يا جماعة الخير فن الغناء يبني أمة لذلك لابد تهئيته للقيام بهذا الدور ..اغنية الوسط اي الأغنية الام درمانية رغم انتشارها ولعوامل موضوعية …اسهامها في بناء الوجدان السوداني المشترك… الا أنها لم تعبر عن كل السودان .. لأنها تقوم على ايقاعات محدودة اشهرها التم تم والريقي ..ومقامها الموسيقى سباعي …استطاع النعام فرض إيقاع الدليب وهو تراث شايقي رغم ان النعام نفسه من عرب الهوارير ..لكن الإضافة الايقاعية الكبري هي تلك اضافها اولاد كردفان فقد رفدوها بثلاثة ايقاعات في زمن وجيز وهي إيقاع المردوم والجراري والهسيس …فرقة فنون كردفان رفدت العاصمة بكوكبة من الفنانين فكوا احتكار فناني الوسط للفضاء الغنائي السوداني …إبراهيم موسى ابا …عبد القادر سالم…صديق عباس ..عبد الرحمن عبد الله …اغنية( الدنيا ما دوامة) على إيقاع المردوم اقامت الدنيا ولم تقعدها .. وكذا اغنية (الليلة والليلة دار امبادر يا حليلها ) على إيقاع الجراري فعلت نفس الشي وكذلك أغنية (كباشي كان برضى وصلني ود بنده ) على إيقاع الهسيس . ..
حكى زيدان إبراهيم انه عندما رأى الأغنية الكردفانية استلمت الأجواء استدعى صديقيه الشاعر التيجاني الحاج موسى والموسيقار عمر الشاعر وطلب منهما اغنية مردوم بأسرع فرصة… فكانت اغنية (اسير حسنك يا غالي …)
عبد القادر سالم شكل إضافة كبرى للأغنية السودانية لانه تعامل مع الايقاعات الكردفانية بوعى وعلم ولم يعتمد على الموهبة فقط …بدأ عبد القادر باثبات جدارته الغنائية بأغنية الوسط…. إذ دخل على المستمع السوداني بأغنية من اغني الوسط …وهي اغنية مكتول هواك يا كردفان وكانت بالسلم السباعي ..شاعرها من ريفي بحري عمل بكردفان فمزج حبه لكردفان بوصف حببها لكل اهل السودان …لحنها عبد القادر لحنا شجيا ينسجم مع الشجن الموجود فيها … فكانت اغنية الساعة وقت ظهورها (اسير غزال فوق القويز/كلام غزل مسعول لذيذ/ودمعات عتاب من زول عزيز/سالت بحر شال القليب في كردفان /مكتول هواك انا من زمان)
وبعدها اتجه للأغنية التراثية الكردفانية ونقلها بوعى للمركز بل وللعالم …فكانت اللوري حل بي . ..الله الليموني والبرتكان الناير ..وليمون باره ..شن تهدي يا الهداية ..وغيرها من الدرر واحيانا يعود للسلم السباعي ( جيناك ذي وزين) وهي من كلمات فضيلي جماع فمحتواها كردفاني ..
عبد القادر سالم نقل الأغنية الكردفانية وبالتالي السودانية لمصاف العالمية وذلك لتميز الحانه …نحن في شرخ الشباب في ذات مسامرة كان معنا هنري وهو من اولاد الذاندي قلنا له دايرين غنا بالذاندي فرفض وقال انه لا يقل عنا وحايغني غنا بتاع رادي. ..فقلنا حاتغني شنو ؟فقال بغني (الكراع ميموني) استغربنا في الاسم… وطلبنا منه أن يبدأ لكي نعرف ماذا يقصد …فإذا به يتناول التربيزة للايقاع ويغني الله الليموني بانضباط لحني وايقاعي عاليين ..وشلنا معه نحن نردد الله الليموني وظل هو في الكراع ميموني واكمل الأغنية بفهمه لها…
في وصلة غنائية كان عبد القادر يغني مكتول هواك فدخل عليه الفنان محمد الأمين بصوته القوي وادئه المتميز …فقدم اغنية موازية على ذات اللحن والايقاع ….
الفنانة العالمية اليهودية راحيل التي عرفناها في السودانية بأغنية (القمر بضوي شن بلاني بالنجوم )…. غنت لعبد القادر (حليوه يا بساما/الفايح نساما) فجاءت عالمية يغني عليها سرور …هنري و ابواللمين وراحيل …ما أعظم الحانك يا عبد القادر …
عبد القادر سالم كان رمزا اجتماعيا بارزا في سوداننا المعاصر فهو الذي درس في جميع المراحل التعليمية الابتدائي والوسطى والثانوي والجامعي وفوق الجامعي …عمل نقيبا للفنانين لعدة دورات فكانت خدماته لهم لا مثيل لها شهد لها كل الناس ..ينسب لكمال ترباس القول انه اذا مرض احد الفنانين يقوم النقيب عبد القادر بملازمته من الإسعاف الي ان يعود إلى يخرج من المستشفى الي بيته أو إلى قبره (لا قدر الله ) بين الأقواس ليست من ترباس ..
عندما سمعت بخبر وفاته انتابني حزن عميق واحسست أنني فقدت صديقا عزيزا… رغم اني لم اتشرف بمعرفتك معرفة شخصية …لكنه الفن الراقي المطرز بالعلم …والسيرة الذاتية البازخة.. والحضور الدائم .. والأخلاق العالية واللسان العف… والمشروع الغنائي العظيم الذي انجزه .. كل هذا جعله صديقا لكل الشعب الذي عاصره …نحمد الله اننا عشنا عصر عبد القادر سالم … فاللهم ارحمه واغفر له واجعل قبره روضة من رياض الجنة. ..واجعل البركة في عقبه …. فيا عبد القادر ان تفككت الدولة السودانية التي عشت فيها ( لا قدر الله )… فإن الأمة السودانية التي اسمهت في بنائها قادمة بإذن الله ..
