ماذا حدث لثورتنا: أسأل عن الطبقة في قيادتها

 

عبد الله علي إبراهيم 

(العنوان عائد لعنوان مسرحية للكاتب الألماني بيتر فايس عن الثورة الفرنسية انتجها المسرح الجامعي بجامعة الخرطوم في نحو ١٩٦٨ من إخراج عثمان جعفر النصيري. وعنوان المسرحية الأصل “جين-بول مارا” الثوري الفرنسي الجذري. وتصرف النصيري في الاسم)

ما الذي حدث لثورتنا حتى صار علينا ما رآه الكاتب الروسي مكسيم جوركي مرة عاد فيها إلى وطنه من المنفى. قال وجدت كل أحد مسحوقاً لدرجة ومجرداً من بركة الرب. وقال، “والحل الذي لا غيره هو الثقافة”.

أعتقد أننا أحسنا فهم ثورة ديسمبر من وجوه الشباب والنوع (الكنداكات) فيها، بل والعرق (الحركات المسلحة). ما لم يعرض لنا في فهمها هو أصلها الطبقي وفي قيادتها خاصة. فاهتم الحزب الشيوعي الماركسي، الذي كان التحليل الطبقي ما ميزه عن غيره، بطبقية خصم الثورة لا طبقية الثورة نفسها. ورمى خصومها بأنهم “رأسمالية طفيلية” رمياً بليهاً حتى كاد الوصف يصير نكتة.

واضح أننا في مأزق حيال أداء القيادة في الثورة. لا أحد يغالط في هذا. ولم تكف محاولات التدارك من مصفوفات ومبادرات وصيحات “يا حمدوك يا حمدوك”. وصار الحل الأمثل لحين هو المطالبة بفصل فرد في القيادة بآخر عشماً في انصلاح الحال. ولا انصلاح. ثم تواتر انسحاب جماعة أو أخرى فيما يشبه “حردان السوق” بزعم أنها الفئة الناجية.

لم أكف عن تسمية الثورة وقادتها بثورة البرجوازية الصغيرة المدينية المتعلمة الرامية ل”صناعة التاريخ والقيم الجديدة والسير” ضد القوى التقليدية المحافظة. وهي القوى التي أطلق عليها خواجة ملعون طبقة “الأعيانتاريا” من “أعيان”. وتحدثت من قريب عن نسب ثورات هذه الطبقة لغاية “تركيب الحياة القادمة” من لدن ثورة اللواء الأبيض، إلى مؤتمر الخريجين، إلى ثورة أكتوبر ١٩٦٤، إلى ثورة أبريل ١٩٨٥، إلى ثورة يومنا. وظلت هذه الجماعة تسوق نفسها بين الناس بأسماء مختلفة مثل “الطبقة المتعلمة” أو “الخريجون” أو “المثقفون” أو “الصفوة”، أو “النخبة”.

وجاءتهم صفة البرجوازية الصغيرة من أدب الحزب الشيوعي. فلما كان هذا الحزب رمى هلبه السياسي في الطبقة العاملة كجماعة مدينية وجد أن عليه أن يُعِرف الطبقات الأخرى التي تشترك مع العمال في مشروع التغيير الاجتماعي والسياسي الذي أطلق عليه المجتمع الوطني الديمقراطي. ووجد الحزب أن فئة البرجوازية الصغيرة هي الحليف المؤكد الذي ينبغي أن يحرص لا على تأليفه وحسب، بل على التحوط من تأثيراته، وهو الأغزر عدداً في الحزب والمجتمع ومنه، حتى لا تغلب في الحزب وتمسخ استقلال العمال بمشروعهم فحسب، بل وقيادة ذلك المشروع. ومن قرأ “إصلاح الخطأ في العمل بين الجماهير”، من أعمال دورة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في ١٩٦٣، عرف دبارة الحزب في لجم هذه الطبقة في داخله (عرضت له منذ شهور على صفحتي بالفيس بوك وهذه الصحيفة وتجده على اليوتيوب).

أعرض هنا لتجربتنا في الحزب الشيوعي مع البرجوازية الصغيرة. وهي تجربة انتهينا منها إلى عبارة دارجة بيننا وهي أنها طبقة “مذبذبة” سرعان ما تنوء تحت حمل ثورتها نفسها. وبعبارة: إنها لا تحسن ثورتها. وجاءت أكمل نظراتنا لها في هذه المضمار في “الماركسية وقضايا الثورة السودانية”، تقرير المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي ١٩٦٧. فنسب الحزب قيادة ثورة أكتوبر للبرجوازية الصغيرة خلافاَ للسائد من أن الحزب هو قيادتها صدقاً، أم توهماً، أم سرقة. فعرض التقرير لعوامل موضوعية لن تشغلنا هنا حالت دون أن يتهيأ الحزب من قيادة الثورة على رأس الطبقة العاملة. فملأت فراغ القيادة نخبة البرجوازية الصغيرة. فقال:

“كانت قوى مثقفي البرجوازية الصغيرة المنتظمين في جهاز الدولة أكثر قدرة على الحركة المباشرة . . . فشكلت جبهة الهيئات. صحيح أن الحزب لعب دوراً بارزاً وسط القوى المضربة (في الإضراب السياسي العام الذي أسقط نظام الفريق إبراهيم عبود). وبذل أعضاؤه التضحيات الجسام استشهاداً ومثابرة وتضحية. ولكن بروز جبهة الهيئات كان في قاعه يعبر عن تطلع الأقسام التي تقدمت الإضراب (مثقفي البرجوازية الصغيرة) لإيجاد قيادة تعبر عن مطامحهم. كان يعبر عن حقيقة أن هذه الأقسام لم تكن ترى موضوعياً في تنظيمات الطبقة العاملة معبراً عن أمانيها” (١٢٨-١٢٩).

ونواصل لنرى كيف انتكس مثقفي البرجوازية الصغيرة بالثورة.

Exit mobile version