ماذا حدث لثورتنا؟

الحركة الشعبية لتحرير السودان (عبد العزيز الحلو): ركل الثورة وهي صريعة الأرض
عبد الله علي إبراهيم
Kicking the revolution when it is down
(ظللت أقلب الفكر مع نفسي حول اعتزال عبد العزيز الحلو لثورة ديسمبر 2018 اعتزالاً غير منتظر من ثوري. وخطر لي أنه ربما ساءته المنازل التي نالها خصماه اللدودان مالك عقار وياسر عرمان فيها. وكان الانقسام الذي وقع بينهما في 2017 فسالة على الملأ أكدت لي خلو وفاض صفوتنا، وبين التقدميين خاصة، من أدب الزمالة السياسية. ولا أدري لم تذكرت وأنا أقلب هذه الفكرة فكاهة مروية عن الأنصار والختمية في أقاصي فسالتهما. فقيل أن ختمياً لقي أنصارياً فسأله من أين قادم. فقال الأنصاري أنه قادم من مهرجان زواج “كورة” درج الإمام عبد الرحمن المهدي على عقده كل عام. فما كان من الختمي أن قال: “تصور أنا جاي هسع من مهرجان طلاق أشرف عليه السيد علي الميرغني”
وقالوا سودان جديد، وي وي!
للأمريكان عبارة في الخذلان صادفت دائما هوى في نفسي. فهم يقولون إنك “لا تزيد في غير ركلي وأنا صريع على الأرض” (kick someone when they are down). ويقال ضمن أشياء كثيرة عمن ينتقد شخصاً مضرجاً بنكسة سبقت.
قرأت بيان الحركة الشعبية-الحلو (٢٣ أكتوبر ٢٠٢٠) وبدا لي انطباق العبارة الإنجليزية عن ركل صريع الأرض عليه. انتقد البيان لائحة تكوين مجلس شركاء المرحلة الانتقالية الذي سيتكون بنسب معلومة من مجلس السيادة ومجلس الوزراء وقوى الحرية والتغيير وحلفاء اتفاق جوبا. وهذا المجلس هو أعلى مراحل الثورة المضادة مع ما يشاع من أنه هيئة ضرورية لاستيعاب مسلحي جوبا لإدارة المرحلة الانتقالية. فرجحت فيه الكفة العسكرية جراء الحلف المكتوب بين مسلحي جوبا وعسكريي المجلس السيادي.
للحركة الشعبية نقدات نبيهة للائحة تكوين مجلس الشراكة. ولكن ما استوقفني في بيانها قولها إنه “قفل الطريق أمام التفاوض مع الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال حول جذور المشكلة السودانية وإلحاقها فقط باتفاق سلام جوبا الموقَّع في 3 أكتوبر 2020 “. واحترت في اختيار الحركة الشعبية لهذا المجلس كمانع لها من التفاوض مع الحكومة من دون مآخذ عديدة على اتفاق جوبا. وعلى رأس تلك المآخذ تفصيله الدقيق في مستحقات السلام في جبال النوبة مثلاً بينما ليس لأي من الحركات الموقعة على اتفاق جوبا وجود في الجبال. ولا نفصل.
ليس خافياً على الحركة الشعبية أن حال الثورة حال. فالقوي المسيطرة على الانتقالية استكملت، في قول بيان الحركة نفسه، سلطة صناعة القرار. وأرادت هذه القوى بمجلس الشركاء “إيصال قوى الثورة لمرحلة اليأس والإحباط وقبول الأمر الواقع”. ومعلوم أن هذه القوى الغالبة لم تهدأ ولو للحظة لتستكمل خطتها لتصفية الثورة. وجرى ذلك أمام ناظري الجميع بما في ذلك الحركة الشعبية التي لم تحرك ساكناً.
كان عشم الثوريين أن تسعف الحركة الثورة في منعطف حرج بعد آخر قبل أن تلقى الأرض صريعة. فاستحسنوا منها وقوفها بمسافة ذكية من إدارة الثورة لتتولاها قحت عن جدارة. وهو موقف بخلاف موقف الجبهة الثورية التي قعدت لقحت كل مقعد. وعشماً في تعزيز الحركة الشعبية للثورة خاطر رئيس الوزراء عبد الله حمدوك بدخول كاودا سلماً وسلقه بألسنة حداد من أرادوا دخلوها عنوة. واتهموا مبادرته بأنها تدبير كنسي مما ترخى له آذان كثيرة.
ووقعت الواقعة حين كشفت الحركة الشعبية عن استراتيجية تفاوضها للسلام. وجاء مطلبها بقيام دستور البلاد على العلمانية أو منح جبال النوبة حق تقرير المصير. ولا أعرف فرجاً نفذت منه الثورة المضادة إلى أفئدة كثيرة مثل زج الحركة لمصطلح العلمانية بغير حاجة ملجئة. فلم نسمع بالمصطلح منذ حل الحزب الشيوعي في 1965 ولا حتى من الحركة الشعبية نفسها. وبدلا عن ذلك جرى تسويق المفهوم باسم “مدنية” أو “فصل الدين عن الدولة” صح أم لم يصح. وما أن طالبت الحركة الشعبية بالعلمانية أو حق تقرير المصير حتى أطلقت علينا دعاة منفرين بدا الصدأ على اطلاعهم على الخطاب المعاصر حول العلمانية. وإذا صح للحركة نقد الثورة المضادة لإيصالها “قوى الثورة لمرحلة اليأس والإحباط وقبول الأمر الواقع” فلا أعرف مثلها من قذف بالناس في لجج الكآبة في اشتراطها العلمانية أو تقرير المصير. وخيم هذا المطلب والشرط الجزافيان على ثوار ما يزالوا لم يستوعبوا انفصال الجنوب برحمان. واتفق لهم أنه لولا الإنقاذ لما انفصل الجنوب. وكذبت الحركة حسن ظن الناس بأنفسهم. فقد أطاحوا بالإنقاذ وتهيأوا لخطاب سياسي أكثر عذوبة عن وحدة الوطن. ولا حياة لمن تنادي.
ليست هذه مرة الحركة الشعبية الأولي في خذلان الآمال التي يعلقها الناس عليها متى ما أزاحوا ديكتاتوراً. فبينما أمِلوا منها حليفاً يعزز صفوفها في وجه الثورة المضادة لقوا منها استنكافاً إن لم يكن استعلاء. فانتظر التجمع النقابي “عودة قرنق” بعد ثورة ١٩٨٥ ليغزرهم. ولكنه لم يأت فحسب، بل قال لهم إنكم لم تعملوا الثورة صاح: دي مايو تو. أعد. ولم يكتف بذلك، بل واصل الحرب مما رجح الكفة للعسكرية حليفة الإخوان المسلمين. وعيك. وهذه مرتنا الثانية مع جرجرة الحركة الشعبية لأرجلها دون الثورة.
قال بيان الحركة الشعبية أن واضعي اتفاق جوبا أرادوا بمجلس شراكة الانتقالية الحيلولة دون وصولها للمشاركة في السلطة. وربما تأخرت الحركة في ركوب الطريق للسلطة. ففي “دفاس” الثورة ألا تأتي خير من أن تتأخر خلافاً لما يقال. لأن مثل هذا المجيء الوخري بكاء على أطلال الثورة المخذولة. وهكذا يمكنك قراءة بقية بيان الحركة.
وأختم بحكاية من أخي المرحوم زين العابدين رحمه الله. كان يجلس بُعيد ثورة أبريل ١٩٨٥ على الهاي تيبل (المنضدة العالية) بنادي أساتذة جامعة الخرطوم. وهي منضدة قدامى الأعضاء. فظهر عند الباب الدكتور شريف الدشوني القيادي الشيوعي الذي غاب عن السودان منذ محنة ٢٢ يوليو ١٩٧٠ لاجئاً بألمانيا الشرقية. وعاد بالثورة. وناداه الزين، الذي اضمحل حسن ظنه بالشيوعيين بالزمن، قبل أن يصلهم:
-يا شريف الجايبك شنو؟ الثورة عملناه وفشلناها. لقد قمنا بالواجب. عد من حيث أتيت.
بدا بيان الحركة الشعبية عن مجلس الشراكة ركل للثورة وهي صريعة على الأرض. غير أن العشم كان عظيماً يا للأسف.



