لينا يعقوب بين الميدان والقناة: من يملك الكلمة الأخيرة؟

بقلم: خالد محمد أحمد

أثار سحب ترخيص الصحفيَّة لينا يعقوب لمزاولة العمل مع قناتي (الحدث) و(العربية) في السودان جدلًا واسعًا، لكنه في الوقت نفسه فتح نافذةً مهمة لفهم طبيعة العلاقة بين المراسلين ومكاتبهم من جهةٍ، والقنوات الإخبارية التي يعملون لها من جهةٍ أخرى؛ فكثيرٌ من المتابعين يظنُّ أن المراسل يقرِّر بمفرده ما يُبَثُّ، بينما الواقع أن صناعة التقارير التلفزيونيَّة تخضع لآليةٍ تحريريَّة متشابكة تشارك فيها أطرافٌ متعدِّدة، وتستند إلى معايير مهنيَّةٍ صارمة.

بوجهٍ عام، ومن واقع خبرةٍ عمليَّة سابقة في المجال، هناك مصدران رئيسيَّان لإنتاج التقارير؛ الأول هو التقارير الداخليَّة (In-house Reports)، التي ينجزها الصحفيُّون والمحرِّرون داخل غرفة الأخبار بتوجيهاتٍ من المنتجين (Producers) والمشرفين (Editors). وغالبًا ما تعتمد هذه التقارير على موادّ وكالات الأنباء وأرشيف القناة، وتكون قصيرةً ومباشرة، وتُستخدَم أحيانًا لسدِّ الفراغ إلى حين ورود تقارير المراسلين من الميدان.

المصدر الثاني هو تقارير المراسلين أو المكاتب الخارجيَّة، التي تحظى دائمًا بالأولويَّة، لأنها تمنح القناة تفرُّدًا وخصوصيَّة بفضل ما توفِّره من صورٍ أصليَّة وحضورٍ مباشر في موقع الحدث. فعلى سبيل المثال، إذا ظهر مستجدٌّ عن أزمةٍ في منطقةٍ معيَّنة، قد تجهِّز غرفة الأخبار تقريرًا داخليًّا سريعًا لإعطاء المتابعين معلوماتٍ أوليَّة، ولكن بمجرَّد وصول تقرير المراسل من الميدان مع صورٍ حصريَّة وشهاداتٍ حيَّة، فإنه يحلُّ محلَّ التقرير الداخلي.

أمَّا من حيث الأنواع، فالتقارير الخبريَّة البحتة تُستخدَم لتعزيز الأخبار العاجلة. وهناك التقارير التحليليَّة، التي تتجاوز نقل الحدث لتضيف خلفيَّاتٍ وسياقاتٍ مقارنة، وغالبًا ما يتولاَّها صحفيُّون مخضرمون، مثل فوزي بشرى في قناة الجزيرة، الذي قدَّم أسلوبًا مغايرًا للتقارير التقليديَّة من خلال الجمع بين اللغة الإبداعيَّة والسرد الواقعي كما تجلَّى في تقريره المشهور عن تنحِّي الرئيس المصري حسني مبارك، إذْ استهلَّه بآيةٍ قرآنيَّة، وسخَّر قدراته اللغوية في المزج بين الجديَّة والسخرية.

هناك أيضًا التقارير الخفيفة (Features)، التي تركِّز على الجوانب الإنسانيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة الاقتصاديَّة، وتكون أقلّ حساسيَّة سياسيًّا.

أمَّا التحقيقات الاستقصائيَّة (Investigative Reports)، فهي الأطول والأكثر تعقيدًا لما تتطلَّبه من شروطٍ وتدقيقٍ صارم نظرًا لحساسيَّتها السياسيَّة والقانونيَّة. ويبدو أن الأستاذة لينا آثرت وصف مادَّتها الخلافيَّة بـ (التقرير)، لأنها لم تستوفِ شروط (التحقيق).

تمرُّ عمليَّة إنتاج التقرير بمراحل عدَّة، تبدأ باقتراح الفكرة، سواء من محرِّري غرفة الأخبار، أو المراسلين في الميدان، أو رؤساء مكاتبهم.

قد يبادر الصحفي باقتراح التقرير الداخلي، أو يتلقَّى تكليفًا مباشرًا بإعداده وفقًا لمستجدَّات الأحداث، وتخضع مادَّته لمراجعةٍ سريعة قبل العرض.

أمَّا تقارير المراسلين، ففي الغالب تأتي باقتراحٍ من المراسل نفسه أو من مكتبه، ولكنها قد تُطْلَب أيضًا من قسم التخطيط (Planning Desk)، أو المشرفين، أو المنتجين في غرفة الأخبار. بعد إجازة الفكرة، يتلقَّى المكتب أو المراسل التكليف من قسم المراسلين (Assignment) ليباشر العمل الميداني المتمثِّل في جمع المعلومات والصور، وإجراء المقابلات. يلي ذلك صياغة النصِّ وإرساله إلى القناة للمراجعة، ثم تمرُّ النسخة في الظروف المثاليَّة عبر محرِّرين ومنتجين ومشرفين لإدخال التعديلات الضروريَّة، قبل أن تدخل مرحلة المونتاج والإنتاج وتُجاز أخيرًا للبثِّ. هناك تفاصيل تقنيَّة عن شكل هذا النوع من التقارير، وظهور المراسل على الشاشة في مستهلِّها وأثنائها وختامها، ولكن لا داعي للخوض فيها هنا.

ومع أن المراسل يمثِّل واجهة التقرير ويبدو للمتابعين وكأنَّه صاحب المبادرة الميدانيَّة، فإنه لا يملك حريَّةً مطلقة؛ فالنصوص تخضع للمراجعة والتدقيق لتتواءم مع السياسة التحريريَّة للقناة. وفي القضايا الحسَّاسة، يكون تدخُّل إدارة التحرير أكبر وأكثر مباشرةً لتحديد الزاوية والمعالجة.

المراسل، إذن، ليس صاحب القرار النهائي، بل هو عنصرٌ ضمن منظومةٍ تحريريَّةٍ متكاملة، فالقناة في نهاية المطاف هي البوابة التي تحدِّد ما يُبَثُّ وما يُستَبعَد.

أيًّا كان الأمر بشأن أزمة الأستاذة لينا، فالمؤكَّد أنها ليست وحدها المسؤولة عن تبعات تقريرها الأخير، بل إنها ربما كانت ضحيَّة لتوجيهات القناة في إبراز زاويةٍ معيَّنة. وحتى لو كانت المبادرة من طرفها، فالتقرير لم يكن ليرى النور لولا مباركة إدارة القناة؛ فمن المفروغ منه أن الالتزام بالخطِّ التحريري واجبٌ على كلِّ الصحفيِّين، الذين يستوعبون توجُّهات قنواتهم بفطنتهم ويعتمدونها وإنْ تعارضت مع ميولهم وأفكارهم الخاصَّة. وإذا قُدِّر للأستاذة لينا يومًا أن تنتقل إلى قناةٍ تتعارض مُنطلقاتها مع (الحدث) و(العربية)، فلن تجد بُدًّا من التحوُّل إلى النقيض تمامًا، فالناس على دين ملوكهم، والمعايش جبَّارة.

هذه المقالة ليست دفاعًا عن الأستاذة لينا، بل محاولة لتعزيز قدرة الجمهور على فهم أيّ أزمةٍ مماثلة مستقبلاً بوعيٍّ أكبر، وإدراك أن ما يُعرَض على الشاشة ليس قرارًا فرديًّا من المراسل أو غيره من الصحفيِّين، بل هو حصيلة عمليَّةٍ تحريريَّة جماعيَّة تُحدِّد زوايا الطرح، وتضع حدودًا للحريَّة.

Exit mobile version