عادل الباز
«كانت نديمة مشغول موجودة في ذلك المساء، ملكة على مقعدها المُرتفع الذي يمُكنِّها من مراقبة نشاط مقهاها من دون أن تضطر إلى الانحناء.. ترتدي قميصها الأحمر ذا الحواف المطرَّزة بالبرتقالي. كانت نديمة مشغول في الواقع، سخيَّة في كل شيء.. ضحكاتها الشهيَّة توزعها للجميع، حديثها تدلقه بلا تحفظ، سخيَّة في فجورها. في استطلاع للرأي أجراه عُشَّاق الصرعات لاختبار أتفه وأحبَّ امرأة في المدينة إلى قلوب الجميع وجرى بمقهاها، توَّجَها الجميع بلا استثناء المرأة التافهة الحبيبة لكل قلب».
كان مقهى نديمة مشغول الذي شيَّده القاص أمير تاج السر في روايته الممتعة “توترات القبطي” مركز الأخبار والصفقات اللئيمة، في ذلك المساء ضجَّ المقهى بالهمس وراجتْ الشائعات في أركانه.. كان مرتادو المقهى يتهامسون حول كارثة ستُلِمُّ بالبلاد لا محالة، وأنَّ “المتقي” الذي ظهر في قرية “أباخيت” يُهدِّد المدائن بالنسف والاسترقاق، وهذا ما يُفسِّر مزاج نديمة مشغول العكر في ذلك المساء. عمَّت أخبار المُتقي وجيشه المتمرِّد البلاد، خاصة بعد أن تسلل إليه العشرات من أهل المدينة وبعضٌ من صبية قهوة نديمة مشغول.
بعد تلك الليلة، تداعت أحداث الرواية بشكلٍ غرائبي، إذ لم يعُد “المتقي” وهو قائد الثورة ومؤلف نص “أباخيت” مجرَّد شائعات، فها هو الآن يحاصر مدينة نديمة مشغول ويعصف بأحلامها في الاستقرار، وكانت نديمة مشغول قد تزوَّجت وسط ذلك الحريق البكباشي صبير، وهو زواجٌ قال عنه الراوي إنها: «تزوَّجت رجلاً بثلاثين مرضاً عضالاً تصطرع داخل جسده». لم تلبث الرواية حتى كشفت عن تفاصيل ما جرى في القرية بعد أن داهمها رجال المُتقي. وما جرى في القرية من مآسٍ وكوارث لم يكن إلاَّ صورة مصغرة لما تعرَّضت له البلاد جرَّاء ثورة المُتقي.
“نديمة” مشغول ومقهاها ورُوَّادها لم يكونوا سوى نموذج للحالة التي وصلت إليها البلاد من فسادٍ وتحلُّل، وحالة اجتماعيَّة واقتصاديَّة أُهدرت فيها كل القيم. وحين يضع القاص أمير تاج السر مقابل هذه الحالة ما جرى في البلاد من قتلٍ وسحلٍ وتعذيب بعد ثورة المتقي، يجعل زمان “نديمة” مشغول ومقهاها وفجُوُرها زمناً وردياً لا مثيل له.
الترميز الذي لجأ إليه أمير تاج السر عبر بنائه القصصي المُشوِّق، لم يسعف القاص على إخفاء تاريخيَّة الرواية وأحداثها التي ليس عسيراً على أي قارئ سُوداني أن يكتشف صلتها الحميميَّة بفترة تاريخيَّة معلومة، رغم محاولة القاص إنكار أن تكون هذه الرواية تستند إلى أي تاريخ. لا أعرفُ لماذا حاول أمير تاج السر أن يهرب من تاريخيَّة الرواية رغم استلهام حوادث التاريخ، بل وإعادة كتابته عبر الرواية، وهو فعلٌ متاح. الغريب أن جائزة البوكر للعام السابق الذي فاز بها يوسف زيدان عن روايته “عزازيل” استندت إلى تاريخ المسيحيَّة بالكامل.
الرواية التي ظلَّ بطلها القبطي “ميخائيل” يروي عن أحداثٍ هُو بطلها وشاهدها الأوَّل بطريقة سرديَّة ممتعة، استطاعت كشف كيفيَّة بناء عالم ما بعد الثورة والتصدُّعات التي اعترته والقيم المهدرة التي كرَّس “المتقي” حياته لأجلها. الحقيقة أنَّ أمير صوَّر عالم الأحلام في فترات ما قبل الثورة وما جرى بعدها بشكلٍ مأساوي، ولكن شتَّان ما بين أحلام الثوَّار وما يطرحه الواقع من حقائق. استطاع أمير تاج السر أن يسرِّب الحكايات الصغيرة والمُدهشة لكثير من الشخصيَّات بالرواية، ليضُخَّ فيها حياة مثيرة أضاءت أرجاء النص بأدوار صغيرة، ولكنها مثيرة للغاية. فشخصيَّات كالبكبَّاشي صبير وحبيبة ميخائيل حليمة والشاعر، كلها شخصيات ساهمت في إثراء النص رغم هامشيتها.
الطريقة الغرائبيَّة في بناء هذا النص لم تكن وليدة هذا النص الساحر “توترات القبطي”، ولكن نمت في وسط إنتاج قصصي شاهق للقاص أمير تاج السر، فشهدنا ذات الطريقة الممتعة في “نار الزغاريد” و“مهر الصياح” وغيرهما. المشروع الروائي لأمير تاج السر يصعد بشكله المتفرِّد في عالم الرواية العربي، ويقدِّم نفسه للعالم بطرائق جميلة ولغة تخص أمير وحده.
من كتاب صادر حديثا للكاتب
تجديف على شواطئ مزهرة