الأحداث – وكالات
وصلت الأوضاع في السودان إلى “مرحلة حرجة”، وفقا لتعبير المدير الإقليمي للمنظمة الدولية للهجرة عثمان البلبيسي، بعد مرور 16 شهرا على اشتعال الحرب الأهلية في البلاد.
في هذه الحرب، بين قوات الجيش من جهة وقوات الدعم السريع من جهة أخرى، سقط نحو 14 ألف قتيل، طبقا لتقديرات الأمم المتحدة، فيما ترفع منظمة أطباء بلا حدود العدد إلى نحو 40 ألفا على الأقل.
وشرّدت الحرب أكثر من 10.7 مليون سوداني – نحو خُمس سكان البلاد- في أسوأ أزمة لاجئين على مستوى العالم، فيما تركت نحو نصف السودانيين في مواجهة مع شبح المجاعة.
وقالت الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية دولية إن إقليم دارفور غربي البلاد شهد وقوع جرائم حرب.
وأخيرا اجتاحت الفيضانات هذا المشهد لتزيد الطين بلّة حرفياً، في 11 من إجمالي 18 ولاية سودانية.
قصص مقترحة نهاية
وفي غضون ذلك، وعلى مسافة آلاف الأميال في العاصمة السويسرية جنيف، تنعقد مفاوضات منذ يوم الأربعاء الماضي ولنحو عشرة أيام، خلف أبواب مغلقة وفي مكان غير معلَن، برعاية الولايات المتحدة والسعودية.
وأرسلت قوات الدعم السريع وفداً للتفاوض، فيما غاب الطرف الثاني في الحرب -قوات الجيش النظامي، ورغم هذا الغياب فالمفاوضات مستمرة.
ومن جنيف، توالت نداءات المبعوث الخاص الأمريكي توم بيرييلو للجيش النظامي بالحضور، ومن السودان، عرض السفير النرويجي أندريه استيانس رغبة بلاده في الوساطة بين حكومة عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش السوداني من ناحية والولايات المتحدة من ناحية أخرى لتقريب وجهات النظر حول اجتماعات جنيف. ومع ذلك يصرّ الجيش على موقفه.
فلماذا هذا الإصرار الأمريكي على إنجاز المفاوضات؟ وفيمّ هذا الإمعان في الغياب من جانب البرهان؟
كاميرون هدسون، زميل مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية في واشنطن، عزا غياب وفد الجيش النظامي عن مفاوضات جنيف إلى عدم وجود تبعات وعواقب لهذا الغياب.
وفي حديث لراديو دبنقا السوداني، تساءل هدسون لماذا لم توضع عواقب للتغيّب عن أمثال هذه الدعوات للتفاوض، ولماذا لا يحاكَم المسؤولون عن ذلك أمام الجنائية الدولية؟ ولماذا لا تُفرض عليهم عقوبات؟
وتابع هدسون متسائلا عما إذا كانت هناك ضغوط مورست على الدول الداعمة لطرفَي النزاع في السودان، لكي تضغط هذه الدول بدورها على هذين الطرفين من أجل حضور المفاوضات؟
وقال هدسون إن الطرفين هنا (الجيش النظامي والدعم السريع) لا يجدان ما يثير القلق من التغيّب أو عدم حضور المفاوضات.
وترفض قوات الجيش النظامي بقيادة الجنرال البرهان، المساواة بينها من جهة وبين قوات الدعم السريع بقيادة حمدان دقلو الشهير بحميدتي من جهة أخرى.
ويصرّ فريق البرهان على أن تأتي دعوته بوصفه المفوّض الدستوري عن الحكومة السودانية، فيكون وفده بهذا المعنى ممثلا لحكومة السودان نفسها، لكن الولايات المتحدة -الراعي الرسمي لهذه المفاوضات- ترفض ذلك، قائلة إنها تريد وفداً ممثلا لقوات الجيش السوداني بوصفها أحد طرفَي الصراع.
ويرى هدسون في موقف البرهان وجهة نظر “معقولة”، قائلا إن هناك الكثير أمام الولايات المتحدة لتفعله كي تُقنع البرهان بالذهاب للمفاوضات.
ونوّه هدسون إلى أن واشنطن تحاول استخدام استراتيجية مفادها إحداث زخم وإحراز تقدّم على عدد من الأصعدة في المفاوضات، سواء كان التوصل لهدنة أو تيسير وصول المساعدات أو بشأن المستقبل السياسي، ثم التلويح بهذا الزخم كتهديد للبرهان على رأس الجيش النظامي بما معناه: إذا لم تنضمّ إلى المفاوضات فسوف تفوتك ومن ثم لن تستطيع المشاركة في اتخاذ قرارات متعلقة بمستقبلك وبمصالحك.
ورأى الباحث أن الاستراتيجية الأمريكية تحذّر الجيش النظامي السوداني بأن قطار المفاوضات قد يفوته إذا هو تأخّر، بينما في حقيقة الأمر يعتبر هذا “الجيش هو القاطرة التي تجُرّ ذلك القطار” على حد تعبيره.
وفي حديث لبي بي سي، عزا الكاتب السوداني المتخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية عثمان ميرغني، تخلُّف الجيش عن الانضمام لقطار مفاوضات جنيف حتى الآن إلى تقديرات سياسية خاطئة لدى قيادات المجلس العسكري في هذا الجيش.
وأوضح ميرغني أن “هناك مَن يراهن على ترتيب مشهد السودان السياسي بعد الحرب، ولا يريد للحرب أن تنتهي إلا بعد أن يضمن اكتمال هذه الترتيبات .. وهؤلاء يقدّمون المكاسب السياسية على أي شيء، ولا يكترثون لمآلات الوضع إذا استمرت هذه الحرب والتي قد تكون فشلاً تاما للدولة وسقوطا حُراً وتشظياً إلى دويلات متحاربة”.
ويشدد البرهان على ضرورة تنفيذ ما ورد في اتفاق جدة قبل عام أولاً، قبل الدخول في أي مفاوضات جديدة، كما يرفض البرهان مشاركة الإمارات في المفاوضات، والتي تواجه اتهامات بتسليح الدعم السريع، وهو ما تنكره الإمارات.
وتعليقا على هذه النقطة، قال ميرغني إن هذا الموقف من جانب البرهان مثير للدهشة لأن الإمارات شاركت في الاجتماعات التي عُقدت في العاصمة البحرينية المنامة في فبراير الماضي والتي استمرت ثلاثة أسابيع وكانت مباشرة بين الجيش والدعم السريع وتوصلت إلى اتفاق كاد أن يكون نهائيا وحاسما للحرب لولا انسحاب الجانب الممثل للجيش السوداني في آخر لحظة، على حد قوله.
فالإمارات إذن كانت موجودة في الوساطة، بحسب ميرغني الذي يتساءل “ما الذي استجدّ منذ شهر فبراير الماضي إلى الآن؟”.
كوميديا سودانية
واتهمت جبهة البرهان واشنطن بالانحياز لجانب قوات الدعم سريع. وقال جبريل إبراهيم رئيس حركة العدل والمساواة ووزير المالية في حكومة البرهان: “لن نقبل بوساطة مفروضة قهرا، ولن نكون طرفا في مباحثات هدفها حفظ مكان للمليشيا في المشهد السياسي” في إشارة إلى الدعم السريع.
وفي حديثه لبي بي سي، نفى ميرغني أن يكون هناك انحياز من جانب واشنطن لأي طرف على حساب الآخر، أو أن تكون هناك مصلحة انتخابية أمريكية وراء إتمام هذه المفاوضات، مشيرا إلى أن المسألة السودانية برُمّتها لا تحظى باهتمام كبير في الأوساط الانتخابية الأمريكية.
وتجدُر الإشارة هنا إلى أن فظائع الحرب الأهلية السودانية تفوق نظيرتيها في أوكرانيا وغزة، ومع ذلك لا تلقى ولو بعضاً مما تلقاه أي من هاتين الحربين من اهتمام في وسائل الإعلام الأمريكية والدولية.
كما انتقد حسين عوض، وزير الخارجية في حكومة البرهان، ما وصفه بالموقف “المتساهل أو المتعاطف” مع قوات الدعم السريع من جانب عدد من الأعضاء النافذين في المجتمع الدولي، فيما يتعلق بعدم احترام هذه القوات لإعلان جدة وقرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة، على حدّ تعبيره في مقال نشره موقع الجزيرة القطري.
ورأى عوض أن “من شأن هذا الموقف أن يسمح للمليشيا (الدعم السريع) بكسب الوقت والتملص من الالتزام بالسلام”.
في المقابل، انتهزت قوات الدعم السريع من جانبها غياب قوات الجيش النظامي عن المفاوضات لتتهمها بالرغبة في استمرار معاناة البلاد.
ورأى ميرغني في هذا الاتهام من جانب قوات الدعم السريع “ضرباً من الكوميديا” لأنها بذلك كأنما تقول “ما لم يأت الجيش السوداني فإننا سنواصل القيام بالاعتداءات والانتهاكات وبذلك تستمر معاناة السودان”!
أما المبعوث الأمريكي الخاص للسودان توم بيرييلو، فاتهم بدوره طرفَي الصراع في البلاد بالـ “جُبن والافتقار للشجاعة والشرف” بسبب استمرارهما في “استخدام التجويع كسلاح”.
مصلحة استراتيجية
ويعزي ميرغني إصرار الولايات المتحدة على عقد مفاوضات جنيف، إلى أن هناك مصلحة “استراتيجية” أمريكية في إنهاء الحرب الأهلية السودانية.
ويوضح ميرغني لبي بي سي: “على الصعيد الاستراتيجي، إذا سقط السودان تماما وانهارت الدولة، فإن المجتمعَين الإقليمي والدولي سيدفعان ثمنا باهظا، لأن السودان يحتل مركزا جيوستراتيجي قويا جدا في القارة الأفريقية وهو قادر على خلخلة كل الأنظمة المحيطة به، فضلا عن أهمية ساحل السودان على البحر الأحمر والذي يمتد لنحو 800 كيلومتر”.
ويتابع ميرغني: “البحر الأحمر أحد أهم معابر التجارة الدولية في العالم، وهو منذ بداية الحرب في غزة قبل نحو عشرة أشهر يعاني أزمة قبالة الساحل اليمني، فإذا أضيف إليها 800 كيلو متر في السودان، فستصبح هناك كارثة دولية، ومن هنا يأتي تصميم الولايات المتحدة والمجتمع الدولي على إنهاء هذه الحرب السودانية”.
وإذا لم يستجب الجيش السوداني بشكل نهائي لنداء المفاوضات في جنيف، فربما تُقدم الولايات المتحدة والمجتمع الدولي على التدخل في السودان بأهداف إنسانية في البداية قبل أن تتحول بصورة ما إلى شكل من أشكال التدخل السياسي، ثم لا يستبعد أن ينتهي ذلك إلى تدخّل عسكري وإنْ كان محدودا، بحسب ميرغني.
ويحذر مراقبون من مغبة عدم تدخل الولايات المتحدة بشكل أقوى في السودان. ويشير بنيامين موسبرغ، نائب مدير مركز أفريقيا بمؤسسة المجلس الأطلنطي البحثية في واشنطن، إلى أن خصوم أمريكا الجيوسياسيين سيتابعون استغلال الخواء الأمني في السودان لصالح مكاسبهم الخاصة، وستتحمل المنطقة تبعات ذلك.
أهمية جيوستراتيجية
وتتطلع أنظار روسيا وإيران، على سبيل المثال لا الحصر، إلى السودان، حيث عرضت كلتا الدولتين دعما عسكريا للقوات المسلحة السودانية طمعاً في تدشين قاعدة عسكرية على ساحل البحر الأحمر في السودان، بحسب ليام كار زميل المعهد الأمريكي لأبحاث السياسة العامة.
وأشار كار إلى أن “إيران عرضت على القوات المسلحة السودانية طائرات مسيّرة، بينما عرضت روسيا تقديم دعم عسكري نوعي غير محدود”.
ويحتل السودان موقعا ذا أهمية جيوستراتيجية كونه يعدّ نقطة التقاء بين العالمين العربي والأفريقي.
وعادة يكون من الصعب إنهاء الصراعات التي تشهد حروبا بالوكالة، لا سيما تلك التي يكون داعمو أطرافها المتحاربة هم شبكة تحالفات متداخلة متوسطة القوى، بحسب كومفورت إيرو، رئيسة مجموعة الأزمات الدولية.
وتتلقى قوات الجيش السوداني دعما خارجيا من عدد من الدول بينها مصر والسعودية، فيما تتلقى قوات الدعم السريع دعما من الإمارات وإثيوبيا وغيرهما – كلّ على حسب ما تقتضيه مصالحه.
وترى كومفورت إيرو أن “السودان غارق في خضم صراع سياسي كبير، ما يترك الحرب الأهلية السودانية مرشحة للاستمرار على مدى شهور وربما سنوات، وأسوأ ما هنالك أن هذه الحرب قد لا تكون الأخيرة من نوعها في السودان”.
وطالما استمر الداعمون من الخارج في تزويد طرفي السودان المتحاربين في الداخل بالسلاح، تبقى البلاد مرشحة للدوران في حلقة مفرغة من العنف.