رأي

لا تفكر.. أنت في السودان

 

علي عسكوري 

*العقل هو مناط التكليف كما يقول الفقهاء في القرآن العديد من الآيات تحث البشر على التفكير والعقل هو ما يفرق بين البشر وبقية مخلوقات الله

انظر مثلا للحيوانات المفترسة، فلاتزال تقتنص فرائسها بذات الطريقة التى استخدمها اسلافها منذ آلاف السنيين، لم تطورها قيد انملة, في ذات الوقت انظر لحياة الإنسان وكيف تغيرت وتطورت، حتى طرق قتله لبعض بني جنسه, من مبارزة بالسيوف ثم بالرصاص إلى اسحلة دمار شامل تقتل بالألآف

*ما حدث هو أن الإنسان طور حياته واساليبه للخير او للشر باستخدام عقله فما نراه اليوم من تغير وتطور في حياة البشر، نتج عن حقيقة واحدة بسيطة هى استخدام العقل(بيرود).

*لا يتم تطورالحياة المادية للإنسان إلا بتطوير المفاهيم القيمية والاجتماعية التى تفتح الطريق للناس كي يفكروا فيما يطور حياتهم, لكن تطوير المفاهيم القيمية والاجتماعية لا يمكن ان يحدث الا في اطار واسع من حرية التفكير! التفكير في أي شئ يتعلق بحياة المجتمع، دون قمع من السلطة او من آخرين تحت دعوى انهم وحدهم يمتلكون الحقيقة.

*مثلا في السودان لم تتطور حياتنا ليس لاننا لا نملك الموارد او رأس المال او العمالة المدربة، بل لأننا لا نفكر.

*فنحن لا نفكر ليس لأننا بدون عقول، بل لأن القوانيين السائدة منذ عقود تحجر على الفكر، كما أن نظامنا التعليمي عقيم لا يخرج مفكرين إنما حفظة ببغاوات لا يمتلكون أدنى مقومات النقد المطلوبة, يقوم نظام التعليم على تلقين الاطفال بعض الحقائق المجتمعية على انها مسلمات لا يجب المساس بها. وهكذا، تخرج جامعاتنا ومعاهدنا، مجموعات بعقلية القطيع، يندر ان تجد فيها عقل ناقد، فالكل مسلم (بتشديد اللام) لما تلقاه وحفظه في قاعة الدرس! فكلما حفظ الطالب ما تلقاه من الاستاذ او ما استذكره من المرجع، ثم اعاد تسجيله في كراسة الاجابة، تحصل على اعلى الدرجات، بل على الامتياز.

*أنظر مثلا لعدد حملة شهادات الدكتوراة والماجستير في بلادنا، ترى اي مردود احدثوه على واقع البلاد المزري، وبلادهم تسفك فيها الدماء غزيرة لقرابة القرن! ما قيمة تلك الشهادات ان لم تساعدنا في حل مشكلات مجتمعنا، او على الاقل حقن الدماء.

*ما قيمة أن يكون الإنسان حاملا لشهادات عليا ولكنه لا يتردد، بل يندفع لامتشاق حسامه لحل اى مشكلة تقابله! ما هو الفرق بينه وبين الشخص الأمي، فالأمي بوسعه ايضا امتشاق السلاح والمنازلة, فامتشاق السلاح لم يكن في أي يوم حكرا على المتعلمين، بل العقل والبصيرة والتدبر هم ما يجب او من المفترض ان يكونوا حكرا على المتعلمين او كما (يدلعهم) صديقنا محمد محمد خير ويسميهم (المستنيرين) ولا اريد ان اقول المثقفين فالثقافة ليس لها هنا مكانا من الاعراب، لأن المثقف غير المستنير.

*لقد كتب أستاذنا الراحل منصور خالد كثيرا منتقدا النخبة جالدا لها جلدا مبرحا، وبدلا من ان ينظر (القوم) في حقيقة ما كتب، تكالبوا عليه وسلقوه بألسنة حداد، بلغ الامر ببعضهم اتهامه بالخيانة الوطنية.. وهكذا.. كل ما نهض كاتب او مفكر لتنبيه النخبة بفشلها وعثراتها، تدافعوا عليه بقضهم وقضيهم براجمات ثقيلة حتى يعود الى حظيرتهم يرسف معهم في قيود الجدب والنضوب الفكري.

*يدعونا ديننا للتفكير، ووصل الامر بالمفكر المصري الراحل عباس العقاد ان الف كتابا اسماه (التفكير فريضة اسلامية) فالهداية عامة ترتبط بالتفكير واعمال العقل، وما عرف البشر خالقهم واهتدوا إلى وحدانيته إلا بعقولهم.

*في السودان ومن واقع الحال، عليك ان تفكر كما تفكر الحركة الاسلامية، او اليسار الماركسي او القوميين العرب، فهذه هى الاطر المعدة سلفا والتى يسمح بالتفكير في داخلها. ان خرج احد على هذه الأطر، فالويل والثبور وعظائم الامور! يتهاون عليه تهاوي الاكلة على القصعة حتى يرجموه ويرده عن (طيشه).

*من تاريخ الأمم نعلم، انه لم تنهض أمة إلا بانتقاد واقعها والسعي لتغييره، ولكن لا يمكن تغيير الواقع دون انتقاده وطرح البديل, غير أن طرح البديل في السودان يمثل تحديا حقيقيا. قليلون جدا يرغبون في تغيير الواقع المزرى الذى يعيشه مجتمعنا، فما زلنا نسمع (سنعيد سيرتها الاولى) ترى، أي سيرة تلك التى يتحدثون عنها! والله لا اعلم سيرة تالدة لبلادنا وازدهارها إلا أيام الممالك النوبية، او بعض ما تركه المستعمرون خلفهم من استقرار ومؤسسات جيدة، ما كدنا نضع يدنا عليها الا حطمناها ثم بيعت على اساس انها فاشلة، رغم ان الفشل هو فشل قدرتنا على ادارتها.

*بعد هذه الحرب، هنالك خيارين: إما أن يستمر القوم في ممارستهم القديمة القائمة على حجر التفكير المفضي للتغيير، او البحث عن طريق جديد لادارة مجتمعنا ودولتنا.

*الخيار الاول الاستمرار في القديم، سينتهي بناء مرة اخرى إلى ما انتهينا إليه من حرب طاحنة قضت على الأخضر واليابس, ومن الخطأ الكبير افتراض ان النهج القديم سيقودنا الى نتيجة اخري غير الحرب! فمصنع النقانق لن ينتج لك زبادى مهما فعلت! بمعنى، ان تركيبة دولتنا الحالية مصممة على استيلاد الحروب واستمراريتها, وطالما ظلت ذات التركيبة تعمل، فبلا شك ستنتج ذات منتجها المعروف الحروب.

*أما الخيار الثانى (التغيير) فهو الوحيد الكفيل بإخراجنا من دوامة الحروب. يحتاج هذا الخيار الى اعتراف الجميع اولا ان السبعة عقود الماضية لا تشرفنا، وان الجميع قد اخطأ في حق الآخرين وفي حق البلاد, هذا هو المدخل الصحيح، إذ بدون الاعتراف بالخطأ لا يمكننا اصلاحه، وعلينا الاعتراف ايضا انه في خلال سبعة عقود مضت لم يكن لدينا ماض تليد لنعود إليه, ان اقر الجميع بذلك يمكن الانتقال للخطوة التالية، وهى مغادرة محطة النهج القديم والبحث عن ترتيب جديد يحقق لنا السلام والاستقرار. ويجب القبول بأن اى ترتيب يحقق الاثنين (السلام والاستقرار) مرحب به

كما يجب الاعتراف بأن كل اتفاقيات السلام منذ اديس ابابا 1972 وحتى اليوم لم تحقق سلاما ولا استقرارا، بل زادت بلادنا تشظيا.

*لكن البحث عن طريق جديد يحقق التغيير يحتاج لفكرة، والتفكير في بلادنا ممنوع.

*لن أيأس من رحمة الله التى ستهدينا يوما ما الى فكرة تخرجنا من اراقة الدماء، رغم ذلك، الراجح عندى تمسك الغالبية بالنهج القديم وتفضيلها الاستمرار فيه واختيار اراقة الدماء على حقنها، فهولاء مازالوا يعتقدون ان كل الدماء التى اريقت ليست كافية للبحث عن منهج وطريق جديد.

*ختاما… عزيزي القارئ عليك ان لا تفكر فأنت في بلاد السودان حيث قفل القوم عقولهم (بالضبة والمفتاح) وانغمسوا في حروب داحس والغبراء

الذين لا يضعون قيمة لحياة البشر لا يمكنهم ان يبنوا وطنا

هذه الأرض لنا

نقلا عن “أصداء سودانية”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى