بقلم: د. أمجد عمر محمد
التربية ليست مجرد تعليم أو توجيه، بل هي صناعة جيل تتشكل ملامحه النفسية والسلوكية في كل كلمة وموقف يواجهه داخل بيته أو مدرسته أو محيطه الاجتماعي. إن الطفل ليس صفحة بيضاء فقط، بل هو بذرة تحمل استعدادات متعددة، وما يزرعه المربون فيها من قيم وأساليب تعامل هو الذي يحدد اتجاه نموها. لذلك، فإن طريقة الخطاب التي يتلقاها الابن هي التي تحدد إن كان سينشأ منضبط السلوك، واثق النفس، قادراً على تحمل المسؤولية، أو سيصبح متعباً لذاته ولمن حوله.
حين يُستبدل التوجيه البنّاء بالنقد الجارح، ويتحول دور المربي من مُعين إلى متسلط، فإن النتيجة الطبيعية تكون شخصية مدمرة، ضعيفة، مشوشة، فاقدة للثقة في ذاتها. وحين يُعرّض الابن للمقارنات السلبية ويُقابَل بالتحقير بدل التشجيع، فإن شخصيته تتصدع من الداخل، ويتكوّن لديه شعور دائم بالنقص يرافقه مدى الحياة. مثل هذه الممارسات ليست مجرد أخطاء عابرة، بل هي بذور لانكسارات نفسية قد يصعب علاجها.
وفي المقابل، فإن الحماية الزائدة وإعفاء الابن من المسؤولية لا تقل خطراً عن القسوة، فهي تنشئ طفلاً اتكالياً، عاجزاً عن مواجهة أبسط المواقف في حياته، يعيش دائماً في انتظار من ينوب عنه ويمهد له الطريق. أما التربية المتوازنة، فهي التي تمنح الطفل قدراً من الحرية مقروناً بالمسؤولية، فتجعله يشعر بالرجولة المبكرة، وتؤهله ليكون قادراً على اتخاذ القرارات وتحمل تبعاتها مع وجود السند الذي يقويه عند الحاجة.
ولا شيء يرفع منسوب الثقة بالنفس أكثر من الاحترام والمدح الصادق، فالابن حين يشعر بأن جهده مقدّر وأن كلماته مسموعة، تترسخ داخله قناعة بأنه قادر على العطاء والتميز. كما أن التركيز على السلوك الإيجابي، وتجاهل الزلات الصغيرة، يعد من أنجع أساليب تعديل السلوك، إذ يدرك الطفل أن طريق التقدير يمر عبر الأفعال الحسنة، فيسعى إليها بوعي ورضا.
ثم إن التربية الرشيدة لا تكتمل إلا بزرع الثقة في الأبناء وربطها بقيمة الصدق، فحين يثق المربي في ابنه، ويدعمه في أن يكون صريحاً، تنشأ بداخله رقابة ذاتية تجعله يختار الصواب حتى في غياب الرقيب. إن التربية هنا تتحول من مراقبة خارجية مرهقة إلى ضمير حي يسكن داخله ويهديه.
بهذه المعادلات البسيطة، يتضح أن التربية ليست معقدة بقدر ما هي دقيقة، فهي تحتاج إلى وعي في استخدام الكلمات، وحكمة في توزيع الأدوار بين الحزم واللين، بين النقد والتشجيع، بين الحرية والضبط. إن صناعة ولد متعب لا تتطلب جهداً كبيراً، يكفي أن نهمل أو نفرط أو نجرح، لكن صناعة ولد منضبط السلوك، واثق بنفسه، مسؤول عن أفعاله، تحتاج إلى صبر وحكمة وحب واعٍ. وهذا هو الاستثمار الحقيقي الذي يبقى أثره ما بقيت الحياة و خلق جيل معافي .
