كيف أصبح الوقود شريان الحرب في السودان؟

دور النفط والتهريب وشبكات النفوذ في إطالة أمد الصراع

منذ اندلاع الحرب في السودان في منتصف أبريل 2023 بين القوات المسلحة السودانية وميليشيا الدعم السريع، برز عامل واحد باعتباره القوة الخفية التي تدير المعركة من وراء الستار: الوقود. فإلى جانب السلاح والتمويل والجنود، بات النفط والمشتقات النفطية هو العنصر الذي يحدد قدرة كل طرف على الحركة والاشتباك والسيطرة، بل وحتى القدرة على البقاء.

ما يحدث اليوم ليس مجرد أزمة نفطية، بل إعادة تشكيل كاملة لاقتصاد الحرب، تتداخل فيها مصالح عسكرية وتجارية وإقليمية، وتظهر فيها شبكات تهريب دولية، وتنهار بسببها مؤسسات دولة عمرها مئة عام.

1. من بنية تحتية هشة إلى وقود يقرر مصير الحرب

كان النفط السوداني قبل الحرب يعاني من سوء الإدارة والفساد، لكن الحرب حوّلته إلى هدف مباشر. سيطرت قوات الدعم السريع خلال الأيام الأولى على مصفاة الجيلي – أكبر منشأة تكرير في البلاد – وعلى أجزاء واسعة من حقول النفط وخطوط الأنابيب غرب البلاد.

بالمقابل، احتفظ الجيش بالسيطرة على محطة التصدير في بورتسودان وعلى أجزاء من المسار الشرقي للأنابيب، وعلى رسوم عبور نفط جنوب السودان التي تدر له ملايين الدولارات شهرياً.

هذا التوازن الهش انفجر سريعاً، وبدأ الطرفان باستهداف منشآت الوقود:

•الجيش قصف مستودعات ضخمة في مشروع الجزيرة.

•الدعم السريع دمّر محطات ضخ وأنابيب وقطع الإمداد القادم إلى بورتسودان.

•نتج عن القصف تجمّد خام “دار” داخل خط الأنابيب وانفجار أجزاء منه، ما أدى إلى خسائر تتجاوز 100 مليون دولار.

• توقفت مصفاة الجيلي عن العمل بالكامل في أكتوبر 2023، ما أدى إلى فقدان 5.8 مليون دولار يومياً من القيمة الاقتصادية.

2. انهيار صناعة النفط وضربة قاصمة لاقتصادَي السودان وجنوب السودان

 

تعتمد الصناعة النفطية في كل من السودان وجنوب السودان على ثلاثة خطوط رئيسية تمتد لمسافة 3700 كم. ومع تضرر عدة محطات ضخ وتعطّل التسخين وغياب الفرق الفنية، تجمّد النفط في خط “بترودار”، وتحوّلت مساحات واسعة إلى برك من الخام المتسرب، مهددة التربة والمياه الجوفية والماشية.

تقدّر خسائر جنوب السودان – الذي يعتمد كلياً على خطوط السودان للتصدير – بأنها بلغت 50% من الناتج القومي.

أما السودان، فأصبح يستورد كل حاجة السوق عبر شركات خاصة مرتبطة بقيادات عسكرية، تبيع المشتقات للمستهلكين بأسعار مضاعفة في سوق سوداء عملاقة.

**3. مصادر دعم الوقود للطرفين:

بين الاستيراد الرسمي والتهريب عبر ليبيا وجنوب السودان**

أولاً: الجيش السوداني

بعد أن فقد السيطرة على المصفاة، لجأ الجيش إلى:

•الاستيراد المباشر من الأسواق العالمية ودول الخليج

•استخدام شركات خاصة مقرّبة من قادة المؤسسة العسكرية

•تجاوز نظام العطاءات الحكومية

• تحصيل أرباح مضخمة من أسعار البيع

ومع خضوع منظومة الصناعات الدفاعية للعقوبات الأميركية والبريطانية، أصبحت شركات النفط الخاصة هي القناة الوحيدة لتوفير الوقود للجيش، في ظل غياب تام للرقابة.

ثانياً: الدعم السريع

اعتمد الدعم السريع على ثلاثة مصادر رئيسية:

1. التحكم في الحقول والمصفاة وخطوط الأنابيب داخل مناطق سيطرته

2. الوقود المهرب من جنوب السودان

– عبر قادة عسكريين متورطين، وفق تقرير لجنة الخبراء الأممية

3. التهريب عبر ليبيا

– وقود يأتي من الكفرة إلى مليط يخضع لسيطرة مليشيات موالية لخليفة حفتر

– تجارة بملايين الدولارات سنوياً

هذه الشبكات جعلت الدعم السريع قادراً على تشغيل آلياته الثقيلة وحركة مقاتليه في دارفور وكردفان رغم الحصار.

 

4. المدنيون: الضحية الأولى لصراع النفط

 

بينما تحوّل الوقود إلى شريان الحرب، تحوّلت حياة المدنيين إلى جحيم:

أزمات تلاحق الحياة اليومية

• تضاعفت أسعار الوقود لأكثر من 700% في بعض المناطق.

• ارتفعت أسعار الغذاء بسبب تكلفة النقل.

• توقفت محطات المياه والآبار بسبب انعدام الوقود.

• توقفت مولدات المستشفيات وأجريت عمليات جراحية تحت ضوء الهواتف.

• انقطعت شبكات الاتصالات في كثير من المناطق بسبب توقف مولدات الأبراج.

تلوث بيئي واسع

• تسربت آلاف الأطنان من الخام إلى الأراضي الزراعية.

• تلوّثت المياه الجوفية حول مناطق الأنابيب المتضررة.

• ارتفع خطر الأمراض التنفسية والجلدية.

التحول إلى الطاقة الشمسية

في دارفور، وخاصة نيالا والفاشر، أصبحت الألواح الشمسية هي البديل الوحيد للناس بعد عام كامل بلا كهرباء.

5. لماذا يعجز المجتمع الدولي؟

على الرغم من التحذيرات، لم تستطع الأمم المتحدة أو الاتحاد الإفريقي أو دول الجوار تحقيق أي تقدم ملموس، لأسباب تشمل:

• عدم قدرة الفنيين على الوصول لمواقع الإصلاح.

• رفض الدعم السريع السماح بعمليات الصيانة.

• اعتماد الجيش على رسوم عبور النفط لتمويل عملياته العسكرية.

• خشية جنوب السودان من الانهيار الاقتصادي إذا توقف الخط نهائياً.

يقترح الخبراء أن يتم:

1. إدراج حماية البنية النفطية في أي اتفاق وقف إطلاق نار

2. إرسال فرق دولية محايدة لإصلاح خط بترودار

3. وقف تهريب الوقود عبر ليبيا

4. فرض رقابة على الشركات الخاصة التي تستورد الوقود للجيش

لكن كل ذلك يظل رهيناً بنهاية القتال.

خلاصة

أثبتت الحرب في السودان أن الوقود ليس مجرد مادة تشغيلية، بل عامل حاسم في ميزان القوة. كل طلقة، كل تحرك عسكري، وكل غارة، وكل محاولة صمود… تبدأ من شاحنة وقود.

لا يمكن فصل الحرب السودانية عن اقتصادها – فطالما هناك نفط يتسرب، ستستمر الحرب في الاشتعال

Exit mobile version