خالد موسي دفع الله
شهادتى فى سعادة السفير محمد الطيب قسم الله مجروحة، اذ أعتبر نفسى أحد تلاميذه ليس بالأخذ كفاحا منه بل بما يمثله من أنموذج ملهم لجيلى فى درب الكسب المعرفى والأدبى والثقافى. و أنا اكثر الناس سعادة بنشر ديوانه ( اغاني النيلين) بلغات شتى. ومحمد الطيب مثقف موسوعى، وفقيه ولغوى، ومفسر وشاعر وأديب، اختط لنفسه منهجا متفردا يقوم على العصامية والدراسة المتأنية والشغف بالمعرفة، مع مطالعة التراث وحفظ المتون ، وتوهج القريحة، وهو بذلك يعيد سيرة مجد كبار الأدباء والشعراء. و رغم انحياز الشاعر محمد الطيب للثقافة العربية والإسلامية ويعتبر احد أبرز المدافعين عن أصالتها وهويتها، إلا انه ظل متفاعلا مع الثقافات العالمية الأخري بما حباه الله به من معرفة باللغات خاصة الإنجليزية والفرنسية والرومانية. وقد إتصل بأصول الثقافة الانجليزية والفرنسية وأغترف منها الصفو وترك الوشل، وحذق دراسة كبار الأدباء فى الثقافتين فكان يقرأ لشكسبير و ينسج معارضات وترجمات لسوناتاته كأنه عاش معه فى العصر الأليزابيثى حيث ولد فى العام 1564، وقليل من الأدباء من برع فى ترجمة سوناتات شكسبير شعرا الي اللغة العربية، منهم استاذنا الكبير بروف عبد اللطيف سعيد ومحمد الطيب قسم بشعر عربى فصيح رصين، وتفرد قى قيادة هذا الضرب من الفن استاذ الأجيال إدريس البنا الذى برع فى افتراع مقارنات بين شعر الحقيبة وشعر شكسبير. وتعمق محمد الطيب فى دراسة الادب الفرنسى ومازج بفرادة بين الصور والأخيلة في الشعر العربى والرومانسية فى الشعر الفرنسي و التشبيهات والموسيقى فى الشعر الانجليزي.
ومن طرائف ثقافته الموسوعية زار السفير محمد الطيب لندن في مطلع التسعينات حيث اخذه زميل لجولة حول لندن، وعندما مرا بشارع غريت سانت هيلين قال لمرافقه وسط دهشته هنا عاش شكسبير. وأخذ محمد الطيب من الحداثة لكنه لم يفتتن ببهرجها على النحو الذى قال عنه عبد الله الطيب إنها اضعفت اللغة العربية و هلهلت فحولة الشعر منذ الفتنة بتي اس أليوت. ، وزاده تبحره فى معرفة فنون الأدب والشعر فى هاتين الثقافتين ( الانجليزية والفرنسية) ، أصالة وتمسكا بالتراث العربي والإسلامى، فعاد متمسكا بفحولة الشعر ورصانة المفردة ودقة المعنى، و مفترعات الجمال كما فى الجياد العربية الاصيلة.
لا تجد تشغيبا في دروسه الدينية التى كان يلقيها فى مسجد وزارة الخارجية وهو يمزج فى الاستشهاد بشكسبير وفولتير والشافعى و موطأ مالك. وهذا نهج من الاستطراد والمقارنات عرف عن الفطحل البروفيسور الراحل عبد الله الطيب وهو يجوب آفاق المعرفة ينتقى منها الجياد الحسان دليلا على دقة الفهم وكثرة الحفظ وسعة المعرفة. وساهم مع ثلة من الاساتذة فى مراجعة كتاب ( المرشد لفهم اشعار العرب) لبروف عبد الله فى الطبعة الاخيرة الصادرة عن مركز الدراسات الاستراتيجية فى مطلع التسعين، كما ساهم أيضا فى ترجمة القرآن الكريم الى اللغة الرومانية ضمن مشروع كبير يعنى بترجمة القرآن الي لغات شرق أوروبا.
وكتب فى كل أغراض الشعر، وله وفاء نادر للأصدقاء. وتجد فى قصائده ذكر وفخر بزملائه واصدقائه من ابناء دفعته فى الخارجية او من كان معه فى مقاعد الدراسة، ولعل مقارنة بسيطة بين مجاراة الشعراء فى مدح الناها، تجد ان قوافى محمد الطيب تجاوزت رمزية الحدث و حلقت بجناحيها على فضاء العلاقات وجمال المعنى و النسيب فى الوقت الذى انزلق فيه البعض للغزل المعنوي وبعض اللمم الحسى.
وتكشف أعمال الاستاذ محمد الطيب الادبية والشعرية و الثقافية عن تمسك قوى بالأصالة واعتزاز بالتراث مع نفحة تجديدية مفعمة بالجمال.
وأبرز ما يميز اعماله هو الإلتصاق الحميم ببيئته ومدينته وناسه، كما تتبدى أكثر فى أعماله النثرية، و له شعر غنائى رصين فى وصف مدينته طابت ومروج الجزيرة الخضراء، وله قدرة على تصوير الشخصيات خاصة ذات الأثر الاجتماعى يحفظ ملحهم وطرائفهم و مواقفهم، وهو كثير الوقوف على فصاحتهم فى مواقف السخرية اللاذعة والطرفة المالحة والتعليق الطريف والمقارنات المبدعة.
فضلا عن معرفته العميقة بالفقه ومذاهبه ونهج الفقهاء والأصوليين فى استنباط الأحكام، درج على نشر تفسيره للقرآن الكريم منجما على صفحته الاسفيرية، و تجد فى تفسيره شمولا يأخذ من امهات كتب المفسرين دون تعصب لمدرسة و يستشهد بالفقهاء دون انحياز لمذهب وذلك بما يحفظ الحكم و المعنى فى صفاء واتساق، وبما يناسب التحديات الانسانية الراهنة و الاقضية المعاصرة.
و يسبح فى هذا البحر بثقة العالم، و دقة الفقيه مستصحبا قلق الجيل الناهض الذى يريد الإنفتاح علي الحياة والعولمة ومنتجات الذكاء الاصطناعى و تفاعلات السوشيال ميديا مع التمسك بالاصالة ومبادىء الدين وتقاليد المجتمع، وهو فى ذلك يستشعر روح الاب و حرص العالم و مسئولية الفقيه.
محمد الطيب مزيج متفرد بين حس الشاعر و روح الاديب و مسئولية المثقف و دقة العالم و استرسال الفقيه فى الموازنة الدقيقة بين التحريم والإباحة ، لكنه فوق ذلك فهو إنسان متفاعل مع الحياة وفق عقيدة راسخة لا تتزحزح قوامها الدين والوطن والناس .
رجائي ان تتواصل مسيرة النشر لسعادة السفير محمد الطيب قسم الله لنسعد بمطالعة تفسير القرآن الكريم وأعماله النثرية الكاملة ودراساته الأدبية والثقافية و الفقهية، لأنه بحر كلما أغترفنا منه زاد صفاء وتدفقا.
