عبد القادر الكتيابي
ليس بين الكائنات الحية قاطبةً – الرفيعةِ منها والوضيعة – كائن يقبل عبارة ( لا لمقاومة العدوان ) و هذا دليل كافٍ علی أنها دعوة مخالفة للطبيعة .
أما عبارة : ( لا للحرب ) فهي لا شك دعوة إنسانية حضارية خيِّرة لا ترفض – هذا إذا كان الأمر حرباً فعلاً بمعناها المتعارف لغةً و اصطلاحاً .-
في رأيي الخاص : أن ما يحدث الآن في السودان – بالشواهد المعاشة موثقة – لا ينطبق عليه معنی كلمة حرب حتی نرفضها و ننهی عنها بعبارة ( لا للحرب ) فالأمر ليس مواجهة بين قوتين نظاميتين محكوم كل منهما بضوابط قيادته و هذا ثابت بانعدام سيطرة قيادة المهاجمين علی أفرادها .
كما أنه غير خاضع لما يسمی ( قانون النزاع المسلح ) و ( القانون الدولي الإنساني ) لأنه ليس آيدولوجيا و لا طائفياً و لا عقدياً و لا قبلياً حيث إن المدن و القری التي تمت مهاجمتها ليست تجمعات قبلية .
عليه فإنها بامتياز ما يعرف بالغارات في ثقافة البدو و هي هجمات غادرة بربرية عشوائية منفلتة عن كآفة المظاهر الحضرية ضد المدنيين بأكثر من أن تكون ضد جيشٍ أو كيان مجتمعي عرقي محدد ، فمباغتة القری و المدن و المركز بالتدوين العشوائي بغية إفراغها من السكان و السكنی فيها و ارتكاب جرائم النهب و انتهاك العرض والتعذيب و تدمير مقومات الحياة لا يمكن تسميته بالحرب المعرفة في اللغة و الاصطلاح و القوانين الدولية إلا إذا كانت هذه الغارات المتزامنة مع استهداف الجيش ضمن استراتيجية إلهائه بحيث تكون الهجمات المخططة خنجراً بسنانين سنان ضد الجيش النظامي و سنان ضد المدنيين يقوم بمهام ( الحرابة ) التي تبدو إفساداً في الأرض لمجرد الإفساد نهباً و تدميراً و انتهاكاً مرعباً و لكنها ترمي عند مخططيها إلی غاية أشدَّ خطراً تتمثل في تهجير السكان و استهداف قواعد البيانات كالسجل المدني و سجلات الأراضي و وثائق المحاكم و مراكز الأبحاث و الأجهزة الإعلامية و المكتبة الوطنية و دار الوثائق و المؤسسات التعليمية حسب خطة مدروسة بإحكام مسبقا غايتها طمس هوية الشعب و مسح الذاكرة الرسمية للدولة تماما تزامناً مع استمرار تهجير المواطنين و إحلال مجموعات بشرية أخری مكانهم و الإحلال لا شك غير الاحتلال .
و هذا ما يبدو في التعريف العصري أعمالاً إرهابية غير متصلة بأهداف السنان الآخر الذي يقاتل الجيش الرسمي بالتزامن معها متبرئاً منها بنسبتها إلی المتفلتين رغم وقوعها في مواضع سيطرته .
هذا هو المشهد الكلي بعدسة كاميرا الدرون .
و لا شك أن هذه الأحداث المفاجئة كأنما ألقت كتلةً صخرية من ارتفاع عالٍ في مياه الإعلام الإقليمي و العالمي فأحدثت اضطراباً مربكاً و مغرياً في الوقت ذاته لكثيرين من المختصين و من عامة الأدعياء علی السواء بالخوض في شأن ما يجري تحت صفات محللين سياسين أو خبراء عسكريين و استراتيجيين أو صحافيين علی القنوات و الوسائط و الصحف هذا برغم شُح مصادر الأخبار من الداخل أضف إلی ذلك الطم و الرم علی وجه الخصوص اللايفات و الكتابات و الصور و الفبركات في وسائل التواصل الاجتماعي الأمر الذي نقل حدة المعارك إلی الإعلام بأشد من ما هي محتدمة علی الأرض فزادها تأجيجاً و تعقيداً و شارك في حراكها .
و لعل معايشتي لأتون هذه الأحداث من الداخل قبل نجاتي و مغادرتي مؤخراً و بحكم متابعتي الدقيقة لإرهاصاتها و اهتمامي القديم بالشأن الإقريقي ، كل ذلك مجتمعاً يجعلني علی يقين أن القليل جداً من هؤلآء الخائضين فيها إعلامياً ، من يستطيعون الرؤية بوضوح و يتمكنون من فك الأقواس عن حقيقة ما يجري و أعني بهذه القلة المراقبين و الباحثين في شأن ساحل الصحراء الإفريقية الغربي و المهتمين بدراسة التاريخ الحديث لهذا الجزء من العالم .
هؤلآء الباحثون وحدهم الذين يدركون ما وراء هذه الأحداث باعتبار أنهم كانوا يتتبعون مسارها تحت التبن منذ الحرب العالمية الثانية و استراتيجية سايكس – بيكو في تقسيم الجيوسياسي لحدوديات أقطار المنطقة و ما تمت زراعته من ألغام الفتن الموقوتة التي تحولت إلی جروح ( دافنة ) كما في المثل السوداني ( جرحاً دافن ما بيندمل ) حيث تراكم عليها غبار التعايش المضطرب و غفلت عن فتح و نظافة و معالجة هذه الجروح كل أنظمة ما بعد الاستقلال فتقيحت و أصبحت مهيئة لهذا الانفجار الذي يعتبره العالم ( فجأة ) و يعرف الباحثون و المراقبون أنه ( بغتةً ) و الفرق بين المعرفتين كبير فالمفاجأة تعني ما لم يكن في الحسبان أما البغتة فهي ما تعلم أنه لابد من حدوث و لكنك تجهل موعده كالموت و قيام الساعة .
في الجزء التالي لهذا السرد سنأتي للحديث عن تفاصيل تنفيذ المخطط و دهاء قائد هذه الميلشيا منذ بداية ظهوره في المشهد الوطني حتی تكوين اللجنة الٖأمنية و فض الاعتصام و سقوط نظام المؤتمر الوطني .
أما الحديث عن شواهد الإرهاصات بحدوث هذا كله – قديمها و حديثها – فلابد له من مقدمة مطولة تعرض تاريخ هذه المجموعات البدوية في الجوار الإفريقي الغربي و دوافعها و دورها في هذه المقتلة العظيمة و إن كان ذلك مبذولاً اليوم علی الوسائط و المراجع إلا أنني سأتناوله لا حقاً إن شآء الله من منظور آخر ربما يكون مختلفاً.