عبد الله علي إبراهيم
اشتهرت بيننا قصيدة «الفزي وزي» أي «الهدندوة أو البجة عامة» للشاعر الانجليزي رايدرد كبلينغ التي كتبها عن وقفة البجا المهدوية الباسلة في شرق السودان ضد جحافل إنجليزية كسروا فيها المربع الانجليزي الدفاعي الحصين. وأدين، مثل كل أبناء جيلي من محبي الاطلاع، بفضل تعريفنا بتلك القصيدة إلى المرحوم الشاعر صلاح أحمد إبراهيم حين ذكرها عرضاً في قصيدة له عن الهدندوة كان نشرها في «غابة الابنوس» من دواوينه، رحم الله صلاحاً. كان البون بين اطلاعه وإطلاع جيله شاسعاً حتى لقى ربه.
لم أكن أعرف أن لكبلينغ قصيدة أخرى عن السودان حتى وقفت أخيراً جداً على قصيدته المعنونة «مدرسة كتشنر» التي كتبها عام 1898م. واستغربت: لماذا ذاعت «الفزى وزي» وباخت «مدرسة كتشنر»؟ ولربما وجدنا شيئاً من الاجابة في عاداتنا الثقافية في الاحتفال برموز المقاومة والتصدي (وأصل العادة في الفكرة الوطنية ووريثاتها) وإهمال ما يشي بخيبتنا أو فشلنا. وهي عادة ربتنا على عدم الصبر على التأمل والمراجعة والميل الى نسبة الهزيمة الى غير أدائنا، ولوم كل شيء آخر عدا أنفسنا. ولا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
قال كبلينغ أن قصيدة «مدرسة كتشنر» هي ترجمة في الانجليزية لأغنية كان صاغها مدرس «محمدي» أي مسلم من المشاة البنغال (من اقليم البنغال بالهند المستعمرة الذي هو بنغلاديش حالياً) ممن كان بالخدمة العسكرية بمدينة سواكن. وقد كتب المدرس المحمدي الأغنية من فرط التأثر حين بلغه أن كتشنر، بعد فتحه السودان في العام 1898م، قد سأل الانجليز أن يتبرعوا لبناء مدرسة للأحباش أي السودانيين. وسيجد قارئ القصيدة أنها بذرة صالحة لقصيدة كبلينغ المسماة «عبء الرجل الابيض» التي كتبها في العام 1899م وأصبحت بمثابة المبرر الاخلاقي والثقافي للفكرة الاستعمارية في أوائل القرن الماضي، وهي قصيدة طبقت شهرتها الآفاق.
قال كبلينغ عن المدرس المحمدي يخاطب السودانيين الذين هزمهم كتشنر في معركة كرري 1898م ثم ذهب يطلب لهم أسباب العلم من انجلترا:
أيها الحبشي، أحمل حذاءك على يديك و«دَلْدِل» رأسك على صدرك.
فهذه عَظمة كتشنر الذي لم يشتت جمعك مازحاً، فبوسعه الآن تحقيق (الخير لك) الذي انتظره سنين عدداً.
وأن يبلغ من هذا الأمر غايته فوق جثث أمرائك.
وصف الشاعر كتشنر بالجنون. وقد قضت حكمة جنونه أن يستعين بجيش جديد من المعلمين والمعارف، لا الجنود، لأخذ السودانيين في مدارج الحكمة والرشد:
سوف لن تتعلم نبل اسمه من فوهة بنادقه ذات الشفاه النظيفة.
ولكنك ستلهج باسمه حرفاً حرفاً، من الكاف إلى الكاف، بفضل ما ستتلوه شفاه رجال له من المعلمين.
ووصف الشاعر الانجليز بالجنون: فقد خلقهم الله على ذلك، بل هم أجن خلق الله قاطبة فها هم يستجيبون بسخاء مركوز فيهم لدعوة لتعليم من حقنوا دمه في كرري (أي السودانيون» بعد هزيمة نكراء:
وجن الانجليز تليد، ولهم جن طريف.
فهم يطلعون الناس على السحر الذي يُمكِن لهم في الارض، وهو أصل ثروتهم، لا يطلبون جزاءً ولا شكورا.
وعليه، أيها الحبشي، فطالما كنت عبد فضلهم، فأسرع وتعلم.
والحق أيضاً أن كتشنر مجنون.
فإذا رغب الذي قصم ظهرك في تعليمك
فلا تتثاقل، وهب سريعاً إلى مدرسته.
امض، أيها الحبشي، وأحمل حذاءك على يديك، «ودلدل» رأسك على صدرك.
فالذي لم تأذن له أريحيته بقتلك، لن يمزح وهو يعلمك ويثقفك.
وأصبحت أكثر معاني قصيدة «مدرسة كتشنر 1898م» مجازات مركزية في قصيدة كبلينغ «عبء الرجل الابيض 1899». ففي القصيدة اللاحقة يدعو كبلينغ الرجل الابيض أن ينفي أبناءه في تخوم العالم ليخدموا حاجيات أسراهم ممن اثخنوهم في الحرب. وأشتق كبلينغ من معنى الحرب التي تنتهي الى خير المهزوم – أي الى نصره في آخر الأمر – مجازه المشهور الذي دعا فيه الرجل الابيض الى «خوض حروبه الوحشية من أجل السلام».