إعادة تخيل السودان من خلال عدسة “باندو”: نموذج جذري لإعادة بناء النظام السياسي

يوسف ماجد يوسف

أزمة السودان ليست أزمة سياسية فقط؛ هي أزمة نظام كامل. المشاكل التي نراها فوق السطح مثل الحروب والانهيار المؤسسي وفشل الفترات الانتقالية كلها أعراض ظاهرة. أما الانهيار الحقيقي فهو حاصل تحت الأرض في الجذور الخفية: شبكة الثقة، الثقافة المؤسسية، الرؤية الوطنية المشتركة، والقيم المدنية. لسنين طويلة حاول السودان أن يزرع أشجار سياسية جديدة في تربة مرهقة ومكسرة. نموذج “باندو” يقدم طريقة مختلفة تماماً. طريقة تبدأ من إصلاح الجذور قبل أي شيء يظهر فوق الأرض.

ولفهم النموذج يجب أولاً فهم كلمة باندو نفسها. الباندو هو واحد من أكبر الكائنات الحية في العالم. هو غابة من شجر الأسبن في ولاية يوتا الأمريكية. شكلها فوق الأرض يبدو كأنها آلاف الأشجار المنفصلة، لكنها في الحقيقة كلها متصلة ببعضها من تحت الأرض بجذور واحدة ضخمة ومتشابكة. الأشجار الظاهرة فوق الأرض تبدو مستقلة، لكنها قوية وقادرة على الصمود لأنها مرتبطة بجذر واحد. إذا ضعفت شجرة، بقية النظام يدعمها. وإذا حرق الحريق جزءاً من الغابة، الجذور تطلق براعم جديدة في مكان آخر. قوة المنظومة ليست في الشجرة الواحدة بل في الجذر المشترك.

هذا المثال مهم للسودان لأن واقعنا السياسي عكسه تماماً. الأشجار السياسية عندنا مثل الأحزاب والحركات ولجان المقاومة والمجتمع المدني والقيادات الإقليمية واقفة منفصلة وكل واحدة بمفردها. لا يوجد جذر مشترك يغذي الثقة أو التعلم أو التنسيق أو الرؤية الوطنية. لهذا السبب تسقط كل محاولة انتقالية، لأن البلد يستبدل الأشجار دون أن يصلح التربة.

مع مرور الزمن أصبحت تربة السودان السياسية متآكلة. لا توجد رؤية وطنية مشتركة أو ثقافة سياسية متفق عليها أو مؤسسات قادرة على التعلم والاستمرار. القوى المدنية متشرذمة، الأقاليم تحمل مظالم تاريخية، والسلطة السياسية مبنية على تحالفات هشة وردود أفعال بدلاً من أن تكون مبنية على نظم حكم واضحة. في كل انتقال يتكرر نفس المشهد: وجوه جديدة وصفقات جديدة لكن جذور الأزمة كما هي.

من هنا يبدأ نموذج باندو. الفكرة هي بناء شبكة وطنية شاملة وغير مسيسة حزبياً تعمل مثل الجذر المشترك. شبكة تربط بين لجان المقاومة والشباب والأحزاب والمجتمع المدني والنقابات والقيادات الأهلية وخبراء الداخل والخارج والاقتصاديين والقانونيين والتقنيين والفاعلين الإصلاحيين. الهدف ليس أن يصبح كل هؤلاء حزباً واحداً أو تحالفاً واحداً، بل أن تكون لهم رؤية مشتركة وآليات تعلم مشتركة وحوكمة مشتركة مع الحفاظ على استقلال كل جهة. ومع الزمن تصبح هذه الشبكة جذراً قوياً تخرج منه براعم سياسية واضحة ومستقرة مثل مقترحات للدستور ونظام حكم جديد وخطط للسلام والفدرالية وإصلاح اقتصادي وإصلاح القطاع الأمني وعدالة انتقالية وبنية رقمية حديثة للدولة. السودان حاول إنتاج هذه البراعم بلا جذر وهذا النموذج يعكس المعادلة.

لكن أي منظومة ناجحة يجب أن تجيب على السؤال الصعب: لماذا قد لا ينضم الناس؟ ولماذا في النهاية سينضمون؟ كثير من الفاعلين يخافون فقدان نفوذهم. الأحزاب والقيادات تعودت أن تعمل منفردة وتعتقد أن العمل الجماعي يضعف وزنها. لكن الحقيقة أنهم متفرقون وضعفاء جداً. الانضمام لشبكة موحدة يعطيهم شرعية وقوة تفاوض أكبر من أي قوة يمكن أن ينالوها منفصلين.

انعدام الثقة يمثل عائقاً كبيراً. الشباب لا يثقون في الأحزاب، الأقاليم لا تثق في الخرطوم، والمجتمع المدني لا يثق في النخب السياسية. نموذج باندو يعالج ذلك بتوزيع القوة بين الجميع بحيث لا تستطيع أي جهة الهيمنة على البقية. عندما يرى المشاركون أن صوتهم محفوظ داخل النظام ذاته يبدأ الشك في الانخفاض.

بعض الفاعلين يخافون من الاستغلال أو الاختراق السياسي. الحركات السودانية كثيراً ما تم استيعابها في أجندات حزبية. لكن النموذج الحالي مبني على قواعد شفافة وقيادة دورية ورقابة جماعية تمنع أي جهة من السيطرة. هنا تنتقل السياسة من الاعتماد على الأشخاص إلى الاعتماد على الأنظمة.

هناك أيضاً من لا يرى فائدة مباشرة. السودان بلد يعاني من الندرة، والناس تريد أن تعرف ما الذي ستستفيده فوراً. الشبكة هنا توفر تمويلاً وتدريباً وبيانات وأبحاثاً وأدوات تنسيق وحماية جماعية وشرعية دولية. الانضمام يزيد قوة كل فاعل ولا ينقصها.

الخوف كذلك عامل حقيقي. البعض يخشى أن يكون هدفاً سهلاً. ولكن بما أن القيادة موزعة فلا يوجد شخص واحد يمثل الواجهة وبالتالي يتوزع الخطر ويقل. الشبكة نفسها تصبح حماية.

هناك جانب آخر وهو الأنا والهوية. كثيرون يريدون أن يعملوا تحت رايتهم الخاصة. لكن نموذج باندو يقدم هوية أكبر وأكثر نبلاً وهي أن تكون جزءاً من مشروع تاريخي لإعادة بناء السودان من جذوره. هذا يمنح الناس شعوراً بالانتماء والأمل والمعنى.

حتى التنافس على التمويل وهو المشكلة القديمة يمكن أن يتحول إلى قوة. في نموذج باندو تتجمع الموارد لبناء بنية مشتركة بدلاً من الصراع عليها. والشتات السوداني الغني بالخبرات يجد أخيراً قناة واضحة للمساهمة دون أن يدخل في معارك حزبية.

ورغم كل ذلك تظل الحقيقة الأعمق بسيطة. الانضمام لهذا النموذج يمنح الناس القدرة على تصميم مستقبل السودان بدلاً من انتظار مصيره. يمنحهم وكالة ومسؤولية ومكاناً في قصة البلد.

السودان اليوم يعاد تشكيله من الصفر. السؤال ليس هل سنعيد البناء، بل من سيبني وبأي رؤية. إما أن يملأ الفراغ أمراء الحرب أو القوى الخارجية أو النخب الضيقة، أو أن تملأه شبكة مدنية متماسكة قادرة على بناء نظام جديد. نموذج باندو ليس حزباً ولا حركة تقليدية. هو نظام تشغيل جديد للجيل السياسي القادم في السودان، نظام يبني الجذور العميقة قبل أن يرفع الأشجار

Exit mobile version