عبدالله علي ابراهيم
(أعيد هنا نشر ثلاثة فصول من كتابي “. . . ومنصور خالد” (2018) أعدت فيها النظر في ذائعة أن انقلاب 17 نوفمبر 1958 كان مجرد عملية “تسليم وتسلم” بين عبد الله خليل رئيس الوزراء (أو حزبه) للجيش. وهي ذائعة أفسدت ذوقنا في تحليل ذلك الانقلاب، بل تعدى ذلك إلى بؤس تحليلنا لما بعده من انقلابات. وساق هذا إلى نظريات في الانقلاب غاية في الكآبة و”قدر ظروفك”. اطلعت في هذا النظر المجدد إلى أدبيات مجهولة أو مهملة. منها “تقرير لجنة تقصي الحقائق عن انقلاب 17 نوفمبر”، وكتابات الرفيقة روث فيرست عن ذلك الانقلاب في كتابها عن الانقلاب في أفريقيا، وكتاب ب بختولد في السياسة السودانية، وكتاب وليد الأعظمي عن الوثائق البريطانية عن السودان، وكتابات لجعفر حامد البشير قريب الصلة باللواء، وأخرى لمحمد أدروب وعصام ميرغني. وسعيت لدار الوثائق الأمريكية بماريلاند لأتحقق من ذائعة أن الأمريكان من كانوا من وراء الانقلاب التي هي رواية الشيوعيين).
قال السيد عبد الله خليل البِيْه للجنة التحقيق في أسباب انقلاب 17 نوفمبر 1958 أنه لا يدري حتى وقت مثوله أمامهم في 1964 لماذا قام الجيش بذلك الانقلاب. فقد كانوا كما رأى من ضباطه أنهم “مبسوطين وأنا جبتلهم أسلحة”. وكان الناس حين يسألونه إن كان الجيش سينقلب عليه يقول لهم: “الجيش مبسوط في أمان الله”. واستغرب البِيْه للجنة التحقيق، في أن يوحي هو بتمرد عسكري يؤدي إلى عزله من الحكم. ومن الجهة الأخرى، استنكر الفريق إبراهيم عبود أمام اللجنة، تنصُّل البِيْه عن فكرة الانقلاب في شهادته. وقال إنه من المضحكات أن يتملص البِيْه من فكرة غرسها وتعهدها وحرَّضهم عليها. وزاد أنه لو قال البِيْه “بلاش” في وقتها لما وقع الانقلاب.
ومما لا يحتاج إلى بيان أن أحد الضابطين، البِيْه وعبود، قد غشَّ في القول بعد أداء اليمين. ولكن الضباط لا يكذبون في عبارة سائرة للبِّيْه نفسه. وربما صدَقَ كل منهما حتى مع فارق شهادتيهما. كان كل منهما صادقاً مع نفسه وحقائق تلك الأيام، من نوفمبر 1957 بقدر ما يَسع المرءَ الصدقُ، أمام لجنة تتحرَّى تـُهماً بخرق الدستور عقوبتها الإعدام. فقد كان كل منهما يصوِّر حدثاً سياسياً بما استقر في وعيه منه وقت وقوعه. والسياسة حمّالة أوجه. والنوايا التي ينطوي عليها المرء قبل الواقعة هي غيرها تماماً بعد وقوعها، وإقبال الناس عليها بالتحليل والتسبيب. فقد كان للبِّيْه والفريق فهماً مختلفاً لما اتفقا عليه خلال شهر نوفمبر 1957. فقد كان من رأي البِيْه أن أمره للجيش هو أمر بالتدخل في صلاحيات الطوارئ حتى تستتب البلاد وتفيق من لغطها السياسي وجدالها. وقد جاء بمصطلح “الطوارئ” هذا اللواء محمد أحمد عروة في شهادته أمام لجنة التحقيق المذكورة. أما عبود فقد فهم من أمر البِيْه (أو وافق هذا الفهم هوى في النفس) أن يقوم بانقلاب “يقلبها” على سياسيين من خصومه، خرجوا على حَدِّ المعقول في السياسة، أي انغمسوا في “لعب العيال” كما تجري العبارة المميزة للبِّيْه.
قد لا يأخذ القارئ بفهم البِيْه لانقلاب 17 نوفمبر من فرط تعلقنا بعبارة “تسليم وتسلم” في وصف ذلك الانقلاب. فقد غلب في تفسيرنا للانقلاب أنه تسليم للحكم من البِيْه، وزير الدفاع في حكومته هو نفسه، بأمر للفريق إبراهيم عبود. وهذا هو فهم الفريق بل هو مرتكز مشروعية حكمه طوال ست سنوات. ولم يطرأ لنا أن نأخذ بفكرة البِيْه من حركة الجيش (حتى لا نقول الانقلاب) على وجاهتها، ونستأنس بها في تحليل الواقعة. فمن رأي البِيْه أنه اتفق مع عبود وصحبه الميامين، أن يتدخل الجيش في صلاحيات الطوارئ ويقيم حكومة وحدة وطنية ومجلس سيادة جامع للقوى الحزبية والجنوب. وهو ترتيب سيكون للجيش فيه تمثيل ما. وقد اتفق معظم قادة الانقلاب أمام لجنة التحقيق فيه بأن هذا بالفعل ما تواضع عليه البِيْه والجيش. بل قالوا إن الجيش قد حنث بهذا الاتّفاق في ملابسات سيأتي ذكرها. ولم يشذ سوى عبود، الذي قال إن أمر البِيْه، كان أمراً بالانقلاب العسكري؛ وأنه لم يتفق مع أحد بقيام حكومة قومية أو مجلس سيادة جامع. وليس يخلو محضر تحقيق بالطبع من لَيِّ للحقيقة، بصورة أو أخرى. حتى لو كان من جرى التحقيق معهم ضباطاً ممن اشتهروا بالصدق عند البِيْه. فقد أسقط عبود اتّفاق الحكومة القومية حتى لا تنهض عليه تهمة تجاوز أمر البِيْه. ونفى البِيْه أن يكون قد تحدث مع عبود أصلاً حول الانقلاب، لأنه اعتقد في قرارة نفسه أنه لم يتحدث للفريق في أمر كهذا. وكل ما كان بينهما هو اتّفاق طوارئ. وطالما كان الأمر كذلك، صَحَّ له أن يتستر على ما كان بينه وبين الفريق من نجوى. حتى لا يورط نفسه في تهمة تدبير الانقلاب. فهو لم يقصد من النجوى بتحرك الجيش أصلاً سوى إعطاء الديمقراطية فرصة أخرى.
من المؤسف أن نظرنا التاريخي، لم يقف على سيناريوهات واقعة 17 نوفمبر التي تراوحت بين مفهومين: مفهوم البِيْه لها كفترة طوارئ تردُّ السياسة التي طاش صوابها في نظره، وبين انقلاب عسكري جامع مانع رغب فيه العسكريون أو غيرهم. فمن قِصَر النظر التاريخي أننا لم نتوقف ملياً عند قول المرحوم أمين التوم أن الجيش لم ينقلب على الحكومة بأمر من رئيس الوزراء ووزير الدفاع، البِيْه، بل انقلب على البِيْه نفسه في اليوم السابق لانقلابهم. فقال أمين إن البِيْه كان ينوي أن يكون تدخل الجيش مؤقتاً إلى اليوم الذي يتاح فيه للأحزاب السياسية والقيادات الدينية والشعبية مراجعة الأمر كله ودراسته بُغية الوصول إلى نظام ديمقراطي أمثل. ووجده الشيخ على عبد الرحمن صبيحة الانقلاب سعيداً مبتهجاً بحركة الجيش. وطمأنه إلى أنَّ الأمر لم يفلت من اليد كما قد يتبادر إلى الذهن. وحدث البِيْه الشيخ قائلاً: “إنتو ما تنزعجو وما في حاجة حتتغير أبداً، سياستنا ماشية كما هي. وإنتو باكر حتسمعو في الراديو تشكيل الحكومة الجديدة ورايح يُشَكّل مجلس سيادة ووزارة. أنا وأزهري حنكون في مجلس السيادة، والوزارة حيكون فيها تمانية من حزب الأمة، ويمكن أربعة من الوطني الاتحادي، وواحد أو اتنين منكم (الشعب الديمقراطي، حزب الختمية)، وإنت ما تزعل عشان أنا وأزهري حنكون في مجلس السيادة، لأننا داخلين كرؤساء حكومات سابقة مش رؤساء أحزاب. وسيشترك “برضو” في الوزارة، عدد من إخوانا الضباط الكبار، وسياسة حزب الأمة حتستمر”.
لم يكن البِيْه واثقاً كل الثقة في تلك التطمينات التي بثَّها للشيخ. فقد حدث مساء 16 نوفمبر ما أدخل الشك في نفسه من جهة ولاء ضباط الانقلاب له. فقد كان اتفق معهم لاجتماع ليلة 17 نوفمبر ليقف على سير ترتيبات ما بعد الانقلاب من تكوين لمجلس السيادة والوزراء. ولكنه حين حضر للقيادة لم يجد سوى الفريق عبود واللواء حسن بشير وأبلغاه أن قادة الوحدات مشغولون بعملية الانقلاب مع وحداتهم، ولا سبيل لاستدعائهم. “فعاد إلى منزله وهو يعلم أن تلك بداية الخدعة” كما قال أمين التوم. ولما زاره السيد الدرديري محمد أحمد في ليلة الخديعة قال له بشيء من الخيبة والتشفي: “خلاص العساكر حيستلموها ومش حينزلو إلّا بالقوة”. مع ذلك، فقد تحامل البِيْه على نفسه في الصباح، ومَنّى الشيخ على عبد الرحمن الأماني، عن حركة الجيش التي لن تُغيِّر في الأمر شيئاً. وظل البِيْه، في قول أمين التوم، حسيراً ما عاش “يقص قصته بعد الأوان. ويقول إن الضباط خدعوه.”
التزم البِيْه العهد في حين حنثَ ضباطه العظام به. وقد حنثوا بالعهد في اجتماع ضم قادة الانقلاب يوم 18 نوفمبر. والروايات عن هذا الاجتماع كثيرة ومتناقضة. فقد قال الضباط مثل اللواء حسين على كرار إنهم جاءوا لذلك الاجتماع وفوجئوا بتغيُّر في الموقف حول تشكيل حكومة وطنية ومجلس سيادة مدني عسكري. فقد تلاشى هذا السناريو جملة واحدة. وجلس بينهم عبود يحدثهم عن تكوين مجلس أعلى للقوات المسلحة، ويقرأ من ورق جاهز فيه قائمة بأسماء المجلس العسكري والوزراء. واستنتج أحدهم أن عبود ربما استشار جماعة من الناس! (حمُدا في بَطُنا). وقال أحدهم إنه حتى الخطبة كانت جاهزة. ولكن أحمد خير، المستشار القانوني الباكر للانقلابيين ووزير خارجيتهم في أول تشكيل وزاري لهم، حدَّثنا عن اجتماع أكثر ديمقراطية مما نعتقد من حظوظ للديمقراطية في الجيش؛ أو مما أراد لنا الضباط، أن نظن بها بكثرة حديثهم عن اتّباعهم الأوامر من أعلى إلى أسفل بغير تعقيب. قال أحمد خير إنه جاءه اللواء أحمد عبد الوهاب وجلس بقربه وسأله عن مَنْ يقترح ليكون عضواً بمجلس السيادة. ثم زاد بأن سأله إن كان من السداد تشكيل مجلس من السيد الصديق المهدي ومحمد عثمان الميرغني والأزهري وممثل للجنوب. وردَّ أحمد خير إن مثل هذا الرأي يقع في باب السياسة لا التشريع الذي هو مجال اختصاصه. فشرب اللواء فنجان قهوته وخرج. ولكنه عاد بعد عشر دقائق. ليقول لأحمد إن المجلس الأعلى للقوات المسلحة هو الذي سيكون هرم السلطة الجديدة. وقفل اللواء الباب على عجل وخرج. وبعد نحو ستة شهور قال اللواء حسن بشير نصر، عضو المجلس الأعلى للقوات المسلحة، لأحمد إن الضباط صوَّتوا في الاجتماع فسقط سيناريو البِيْه وفاز سيناريو استيلاء الجيش على السلطان كله بتمثيل رمزي للمدنيين.
سيكون من دواعي البحث المفيد أن ننظر في بواعث وملابسات انقلاب السحر، وهو الجيش، على الساحر عبد الله خليل البِيْه. فسيكون مفيداً لتقويم عقيدة التسليم والتسلم الرائجة أن نعرف لماذا تهرَّب الضباط من البِيْه ليلة الانقلاب؟ وكيف رموا بمشروعه لتدخل الجيش للطوارئ إلى سلة المهملات. فستُـلقي هذه الإجابات بعض الضوء فيما إن كان لهؤلاء الضباط مكراًٌ أبعد شأواً من مكر البِيْه. وسنقف جلياً ما إذا كان قولهم إنهم إنما اتبعوا أمر سلطة عليا، هي البِيْه، حين قاموا بانقلابهم، هو الحق أم أنه من قبيل ذَرّ الرماد في العيون. وستكون مثل هذه المعلومات هي مدخلنا لنقرأ انقلاب 17 نوفمبر 1958 قراءة بصيرة. وسنعرف إن كان ما قام به الجيش هو بالأصالة عن ضباطه أم بالوكالة عن البِيْه. وسيكون مثيراً أن نعرف المصادر المحلية والدولية لشهية أولئك الضباط للحكم.