في أبوشوك والفاشر: كم فجرٍ دامٍ مَرَّ من هنا!

مع بزوغ فجر 11 أغسطس، تحوَّلَتْ شوارع الفاشر ومعسكر أبو شوك إلى مسرح دمويّ لهجوم عنيف من قِبل قوات الدعم السريع، حيث تهاوَت الخيام والمنازل تحت وابل القصف المدفعي والطائرات المُسيّرة، وسقط العشرات بين قتيل وجريح وسط مشهد يعكس حجم الكارثة الإنسانية التي تعصف بالمدينة المُحاصَرة منذ أكثر من خمسة عشر شهراً من قِبل قوات الدعم السريع، مع غياب تامّ لأدنى الخدمات الصحية من مستشفيات وأدوية بما فيها المنقذة للحياة. كان الناجون يربطون جراحهم بقطع قماش، بينما ظَلّ النداء واحداً: «أنقذوا من تبقّى قبل أن تبتلعهم الحرب».

ويُعدّ معسكر أبو شوك، الذي أُسِّس عام 2003 لإيواء الفارّين من الحرب الأولى في دارفور 2003، واحداً من أكبر معسكرات النزوح في السودان، ويضمّ عشرات الآلاف من المدنيّين الذين يعانون الجوع اليومي ويفتقرون إلى أبسط مقوّمات الحياة، ويبعد من الفاشر حوالي خمسة كيلومترات شمالاً. وخلال الأسابيع الأخيرة، تصاعدت حدةّ المواجهات حول المدينة، وسط تحذيرات منظّمات أمميّة من كارثة إنسانية وشيكة في ظلّ انقطاع المساعدات ونقص الغذاء وانهيار البنية التحتيّة الصحيّة. ويأتي الهجوم الأخير في هذا السياق، ليُضيف فصلاً جديداً من المعاناة، ويُضاعف المخاوف من اتساع رقعة العنف ضدّ المدنيين.

بداية الهجوم ومساراته بدأ الهجوم الأخير على الفاشر عند الساعة السادسة صباحاً بظهور طائرات مُسيّرة استطلاعية في سماء المدينة، أعقبها قصف مدفعيّ كثيف من ثلاثة محاور، كان أبرزها المحور الشمالي الشرقي باتجاه معسكر أبو شوك، والمحور الجنوبي الغربي قرب سوق المواشي والأحياء الجنوبية للفاشر، بينما كان المحور الجنوبي الشرقي أقل نشاطاً.

كان منير تيراب، عضو غرفة الطوارئ الإنسانية المشتركة للقطاع الشمالي في الفاشر، حاضراً أثناء ساعات الهجوم الأولى، وقال لـ«أتَـر»: «استخدمت الدعم السريع في الهجوم مئات العربات المُدجَّجة، بينها مُصفّحات وعربات دفع رباعي مزوّدة بأسلحة ثقيلة وخفيفة». مضيفاً أنّ القوات المهاجمة لم تستطع الدخول إلى وسط المعسكر، لكنها استطاعت أن تصل وتتوغّل في البلوكات المُحاذية للاتجاه الشمالي للمعسكر، بحوالي 45 عربة، وأنّ عدداً من النازحين بشمال المعسكر قد جرت تصفيتهم.

وبحسب شهود عيان تحدثوا لـ«أتَـر»، شهدت البلوكات الشمالية لمعسكر أبو شوك عمليات تصفية لعشرات المدنيين داخل منازلهم، وهناك عدد من المفقودين. ووفقاً لشهادة عضو غرفة الطوارئ الإنسانية، شاركت نساء المعسكر بأسلحة خفيفة «كلاشات» للدفاع عن أنفسهن.

فاقَم هذا الهجوم الأخير على الفاشر ومعسكر أبوشوك ما تكابده المدينة ومعسكرات النازحين فيها من أزمة إنسانية حادّة، وما زال الجرحى يعانون من نقص حادّ في الأدوية والمعدّات الجراحية، لذلك لجأ الأهالي إلى ربط الجروح بالقماش العادي، بينما أُجريت بعض العمليات الجراحية البسيطة دون إشراف طبي مُتكامل. وتعمل بعض المرافق الصحية، مثل المستشفى العسكري وجناح من المستشفى السعودي، بقدرات محدودة للغاية. أما على صعيد النزوح، فقد أكّد تيراب أنّ سكّان المعسكر بَاتوا مُعتادين على الهجمات، ولم تُسجَّل حركة نزوح واسعة هذه المرة، إذ يعتمد الناس على اللجوء إلى خنادق داخل المنازل للحماية، وأوضح أنّ المياه متوفرة جزئياً بفضل الطاقة الشمسية والآبار، بينما تبقى الكهرباء محدودة.

كانت هذه من أعنف الهجمات التي شنّتها قوات الدعم السريع على الفاشر منذ بدء حصارها، بقوّة عالية التسليح، لكنها مع ذلك فشلت في اقتحام المدينة والمعسكر. وفي اليوم التالي عاود سوق نيفاشا نشاطه جزئياً وانشغل الناس بدفن الجثث التي خلّفها الهجوم.

ووثّقت تنسيقية لجان المقاومة بالفاشر، ما تعرَّضَ له معسكر أبو شوك للنازحين من هجوم وصفته بـ«الهمجيّ» شنّته قوات الدعم السريع، أسفر عن سقوط أكثر من 40 شهيداً و19 جريحاً.

تصفيات داخل المنازل والخنادق
لكنّ عمدة معسكر أبو شوك للنازحين بمدينة الفاشر، سيف الدين حسين ساجو، قال إنّ الهجوم أسفر عن مقتل 44 شخصاً على الأقل، وإصابة آخرين بجروح خطيرة، وسط انقطاع شبه تامّ للخدمات الصحية والإنسانية، واصفاً الهجوم بأنه الأعنف منذ بداية الحصار على المدينة والمعسكر.

وأضاف أن نسبة كبيرة من الضحايا شباب، وبعضهم تعرّض لعمليات تصفية ميدانية داخل الخنادق والمنازل المُجاوِرة، مُشيراً إلى صعوبات كبيرة في إجلاء الجثامين والمُصابين، وانقطاع شبكات التواصل، ما حال دون الحصول على بيانات دقيقة عن نسبة النساء والأطفال بين الضحايا.

وأشار ساجو إلى أنّ المصابين في حالة حرجة، وأنّ معظمهم يتلقّون العلاج في منازلهم لغياب المرافق الصحية ونقص الأدوية، بينما ظلّت جروح بعضهم مفتوحة وخطرة، كما شهدت المعسكرات نزوحاً داخلياً وخارجياً عقب الهجوم، دون معرفة دقيقة لوجهة النازحين.

وأكّد أن أوضاع المأوى والغذاء تدهورت على نحو أشدّ بعد القصف، بينما تُعاني المعسكرات من ضعف حادّ في المياه والكهرباء وانقطاع الاتصالات. ولفت إلى أنّ لجان المقاومة تُواصل صدّ الهجوم وحماية المدنيين، بينما تعمل غرف الطوارئ على إسعاف الجرحى وتقديم الخدمات المتاحة. ودعا ساجو المنظّمات المحلية والدولية للتدخّل العاجل وتقديم المساعدات الإنسانية وإيقاف القتال من جميع الأطراف.

وفي المقابل، قالت قوات الدعم السريع إنها أحرزت تقدّماً ميدانياً في مدينة الفاشر، وتقترب من السيطرة على الفرقة السادسة التابعة للجيش.

ثلاثة محاور من النار
وبحسب حديث أحمد عبد الله رئيس منظمة مشاد لـ«أتَـر»، فإنّ الهجوم الذي شنّته قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر، استخدمت فيه الطائرات المُسيّرة والمدافع الثقيلة، إلى جانب هجوم برّي متزامن من ثلاث جهات: الشمال الغربي، والجنوب الغربي، والشرق. وأسفر الهجوم عن مقتل العشرات بينهم ثمانية أطفال، وسط دمار واسع في الأحياء المستهدفة.

وقال إنه بحسب شهود، واجهت القوات المهاجِمة، رغم ضخامة حجمها وكثافة نيرانها، مُقاومةً من الجيش السوداني. واستخدمت قوات الدعم السريع في العملية أسلحة ثقيلة وتكتيكات هجوم من عدة محاور لإرباك المُدافعين.

وأكدت المصادر المحلية التابعة لـ«مشاد» وقوع عمليات تصفية ميدانية داخل المنازل، من بينها إعدام معلّم وستة شباب؛ كما فرَّ عدد كبير من المدنيّين بالفاشر نحو معسكر أبوشوك، في موجة نزوح جديدة، في غياب تامّ لمقوّمات الحياة الأساسية من مأوى وغذاء، وانقطاع المياه والكهرباء والاتصالات.

وقال إنّ الهجوم، الذي يأتي ضمن تصعيد أوسع في محيط مدينة الفاشر، ألحَقَ كذلك أضراراً كبيرة بالمعالم الرمزية للمدينة، التي طالت قصر السلطان علي دينار التاريخي الذي ظلّ عُرضةً للتدوين العنيف طوال فترة الحصار.

وفي 11 أغسطس الجاري، أعلنت فرق التقييم الميداني التابعة لمصفوفة تتبُّع النزوح، عن نزوح نحو 500 شخص من معسكر أبو شوك للنازحين في محلية الفاشر، بسبب تزايد انعدام الأمن، وأوضحت في بيان لها، أنّ النازحين انتقلوا إلى مواقع أخرى داخل محلية الفاشر بولاية شمال دارفور، بينما لا يزال الوضع متوتراً وسريع التغير.

وبينما يُخيّم الهدوء الحذر على الفاشر، وتتناثر أنقاض معسكر أبو شوك، تبقى رائحة البارود والدم عالقةً في الأزقة، وشاهدةً على يوم سيظلّ محفوراً في ذاكرة السكّان. أما نداءات الإغاثة وإيقاف القتال، فلا تزال تتردّد في فراغ صامت، بانتظار آذانٍ تَسمع وقلوبٍ تتحرّك قبل أن تَبتلع الحرب ما تبقى من الحياة هنا. وبينما يُمعن المرض والجوع في حصار من أفلتوا من القصف، يتجدّد، مع كل شمس تشرق على الفاشر، ذلك السؤال المؤلم الذي ينتظر الإجابة: كم فجرٍ دامٍ يجب أن يمرّ قبل أن يتوقّف النزف!

Exit mobile version