غينيا بيساو .. إنقلاب أم تسليم سلطة

السفير عطا المنان بخيت

عندما أغلقت صناديق الاقتراع مساء يوم الأحد الماضي، كان الجميع يتطلع لقرار لجنة الإنتخابات المقرر يوم الخميس 27 نوفمبر لمعرفة الرئيس القادم لجمهورية غينيا بيساو. كان الرئيس المنتهية ولايته عمر سيسيكو أمبالو وحزبه الحاكم يعدون لاحتفال ضخم، بينما كان زعيم المعارضة الشاب فيرناندو دياس وتحالفه الواسع يخطط لإعلان فوزه مستبقاً قرار لجنة الإنتخابات. ولكن فى صبيحة يوم الأربعاء، قطعت جهيزة قول كل خطيب، حيث قرر الجنرال هورتا أنتام، وثلة من ضباط الجيش القضاء على التجربة الديمقراطية الهشة فى البلاد، وإستلام السلطة بقوة السلاح.
تقع غينيا بيساو فى أقصى غرب أفريقيا، وهى دولة صغيرة المساحة سكانها حوالى أثنين مليون نسمة، تجاورها السنغال وغينيا كوناكري، وبالرغم من أنها تجاور دولتين تتحدثان الفرنسية فإن اللغة الرسمية فيها هى اللغة البرتغالية، لغة الدولة المستعمرة السابقة – البرتغال، والتي سيطرت منذ القرن الثامن عشر على كل من غينيا بيساو وجزر الرأس الأخضر، وهما الدولتان الوحيدتان الناطقتان بالبرتغالية فى مجموعة دول غرب أفريقيا.
وبسبب ذلك، نشأت في خمسينات القرن الماضي حركة مقاومة موحدة تطالب بإستقلال كل من غينيا بيساو وجزر الرأس الأخضر، قادها المناضل الأفريقى التاريخي أميلكال كابرال، والذي إغتالته البرتغال فى العام 1973، وأدى إغتياله لنجاح الثورة الشعبية ضد البرتغال ونالت غينيا بيساو إستقلالها رسمياً فى العام 1974.
وبالرغم من صغر غينيا بيساو مساحة وسكانا، إلا أن البلاد شهدت تاريخاً سياسياً مضطرباً، موسوم بالإنقلابات العسكرية والمواجهات المسلحة والحروب الأهلية، مما أثر على حركة التنمية فى البلاد مقارنه مع جيرانها. فقد شهدت البلاد خمسة إنقلابات عسكرية ناجحة منذ إستقلالها عن البرتغال، وعدداً لا محدود من محاولات التغيير العسكرى الفاشلة، كان أخرها فى العام 2022. لذلك فإن الإنقلاب الذى حدث يوم الأربعاء الماضي لم يشكل صدمة للرأى العام المحلي بمكوناته المختلفة، وهذا مايفسر البرود واللامبالاة التي استقبل بها المكون الداخلي الإنقلاب الذي أنهى أول تجربة إنتقال سلمى للسلطة بدأت فى العام 2020، على عكس ردة الفعل القوية التى عبرت عنها التجمعات الأفريقية القارية والإقليمية، مثل الإتحاد الافريقى والمجموعة الأقتصادية لدول غرب أفريقيا ـ الإيكواس ـ
ولكن الغريب فى هذا الإنقلاب هو ما عبرت عنه المعارضة، وقطاع من المراقبين بأن ماحدث لم يكن إنقلاباً قررته القيادة العسكرية فى الجيش، وإنما هو تسليم للسلطة تم بتدبير بين الرئيس المنتهية ولايته عمر أمبالو، وصديقه المقرب الجنرال هورتا أنتام قائد القوات البرية. وتزعم المعارضة بأن الرئيس أمبالو لجأ لتسليم السلطة للجيش بعدما أيقن أن نتائج الإنتخابات أكدت فوز زعيم المعارضة فيرناندو دياس، لذلك إستبق الجيش إعلان النتائج بيوم واحد فقط، حيث كان من المنتظر أن تعلن نتائج الإنتخابات الرئاسية يوم الخميس 27 نوفمبر، وكان أول قرار أعلنه الإنقلابيون هو حل لجنة الإنتخابات، وإعتقال أعضائها، ومصادرة صناديق الإقتراع.
وبالنظر إلى العلاقة القوية والممتدة بين الرئيس المخلوع عمر أمبالو، وقائد الإنقلاب الجنرال هورتا أنتام فإن مزاعم المعارضة تكتسب حجية كبيرة، وتبدو مقنعة لحد كبير للرأى العام. ونشير هنا على سبيل المثال لا الحصر، إلى أن قائد الإنقلاب تربطه صلات قرابه مع الرئيس المخلوع، وأن الصداقة بينهما بدأت منذ إلتحاق الشاب عمر أمبالو بالجيش الغينى، حيث كان هورتا أنتام هو مدربه المباشر، وعلى يدية تلقى الضابط عمر مبادئ العسكرية علوما وممارسة. وتواصلت العلاقة بين الثنائى أمبالو ـ أنتام، فعند فوز الأول بالإنتخابات الرئاسية فى العام 2019، قام بتعيين هورتا أنتام رئيسا للحرس الجمهورى ليكون بذلك المسئول الأول عن حماية الرئيس، ثم قام بترقيته لرتبة جنرال وأوكل له قيادة القوات البرية.
وفى العام 2022 عندما حدثت محاولة إنقلاب ضد الرئيس عمر أمبالو لم يتردد صديقه هورتا أنتام من تحريك قواته البرية الضاربة ومواجهة الإنقلابيين وإفشال الإنقلاب، مما عزز الثقة والصداقة بينه وبين الرئيس.
بالمقابل فقد كان تأثير أمبالو كبيرا على صديقة أنتام، لدرجة أنه فى العام 2019، أعتنق الجنرال هورتا الإسلام بتأثير مباشر من الرئيس عمر أمبالو، ورافق الرئيس للحج فى العام 2020. لا شك أن كل هذه المؤشرات تعزز فرضية أن ما حدث فى غينيا بيساو هو أقرب لتسليم السلطة منه لإنقلاب عسكرى من تدبير الجيش. لا سيما وأن الرئيس أمبالو هو أول من أعلن عن الإنقلاب في محادثة مع وكالة الأنباء الفرنسية، أكد فيها حدوث الإنقلاب وأنه يوجد تحت رقابة الجيش، ولكن فى اليوم التالي أعلنت الجارة السنغال أن الرئيس أمبالو وصل إلى العاصمة داكار على متن طائرة عسكرية.
ومهما يكن الأمر فإن ما حدث فى غينيا بيساو شئ مؤسف، أدى لوأد تجربة ديمقراطية هشه، كان متوقعاً لها أن تنمو رغم ما يحدق بها من مخاطر، فقد كان مؤملا أن يقبل الرئيس أمبالو بحكم صناديق الأقتراع، كما قبل سلفه دومينغوس بيريرا، بخسارته للإنتخابات فى العام 2019 وسلم السلطة للرئيس المنتخب عمر أمبالو، ولكن ذلك لم يحدث. وأما إن صدقت مزاعم المعارضة، بأن ما حدث هو تسليم للسلطة، لترتيب البيت من الداخل ثم عودته مرة أخرى، فإن الرئيس المخلوع أمبالو، المعروف بإنتهازيته، سيكون هو الخاسر الأكبر، لأن بريق السلطة أكبر من الصداقة مهما عظمت والشواهد على ذلك لا تحصى ولا تعد.

Exit mobile version